قراءة في أبعاد الأحداث التركية

قراءة فی أبعاد الأحداث الترکیة

ذكر الكاتب الاعلامي والباحث في العلاقات الدولية "علوان نعيم أمير الدين" مقالا في نشر في صفحات شبكة الميادين الإخبارية وتطرق فيه الى أبعاد الأحداث التركية وماهية النتائج التي توصلت اليها كما أشار الى وجهات النظر الموجودة في حقيقة هذه الاحداث.

والى نصّ المقال: بعد إنهاء محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، خرج الكثير من الآراء التي تحدّثت عنه، فمنها مَن وضعها في خانة "مسرحية" تم خلقها من قِبَل الحكومة التركية ذاتها من أجل تصفية كل وجود أو نفوذ للمغارضة التركية بقيادة فتح الله غولن، ومنها ما أكدّ على وجود محاولة انقلاب حقيقية معطياً الكثير من الدوافع والأحداث التي تدلّ على قيام حركة جدّية ضد سياسة رجب طيّب أردوغان.

الرأي الغالب كان يقف في خانة الانقلاب الحقيقي، حيث رأى بعض الباحثين بأن رواية وجود تمثيلية مُستبعدَة والسبب "أن تركيا مجتمع معقّد لا تصلح معه تلك النظرة التبسيطية للأمور، فضلاً عن أن أردوغان يأتي ضمن قائمة الخاسرين من الانقلاب، برغم فشله" .

من هنا، يمكن وضع بعض الأسباب والنتائج التي أدّت إلى القيام بهذه المحاولة الفاشلة.

1- الاتفاق على التقارُب مع روسيا

عَقِب الإعلان عن إعادة العلاقات الروسية – التركية على إثر إسقاط القاذفة الروسية فوق الأراضي السورية، يبدو من المنطقي أن الاتفاق لن يقف فقط عند حدّ الاعتذار عن إسقاط الطائرة وحدها، بل يمكن أن تكون الأمور قد تعدّت مرحلة الاعتذارات إلى الترتيبات أهمها:

- اعتقال الطيّارين اللذين أسقطا القاذفة الروسية حيث أكّد وزير العدل التركي بكير بوزداغ، يوم الثلاثاء 19 يوليو/تموز 2016، اعتقال الطيّارين التركيين اللذين أسقطا القاذفة الروسية، على خلفية مشاركتهما في محاولة الانقلاب الفاشلة في البلاد وهذا ما يريح روسيا بشكل كبير لجهة محاسبة مَن يقتل جنودها من جهة، ومن جهة أخرى التأكيد للرأي العام الداخلي بأن القيادة الروسية قادرة على حماية جنودها وتحصيل حقوقهم.

- مشكلة الحدود مع سوريا لجهة "غض" نظر الأتراك، إن لم يكن السماح، عن عبور الإرهابيين أراضيها متوجّهين إلى سوريا ما قد يزيد الضغوط على الحليف السوري. إضافة إلى ذلك، الخوف الروسي من استخدام الأراضي التركية للعبور إلى القوقاز وبالتالي تشكيل تهديد مُباشر على الأمن القومي الروسي. ولقد ظهر ذلك جلياً خلال تصريح للرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الاثنين 18 تموز/ يوليو 2016، أشار فيه إلى أن بلاده ستضع خلافاتها مع دول الجوار وراء ظهرها.

- التأثير الديني التركي على منطقة القوقاز، بالتحديد، ومنطقة شبه جزيرة القرم لا سيما لجهة العنصر الإسلامي، بحيث تضمن موسكو عدم تأثير أنقرة على أمنها الوطني مستقبلاً.

-الوضع الكردي والذي تعاني فيه تركيا من حساسية مُفرَطَة. في المقابل، تريد موسكو "إجلاس" الأكراد على طاولة المفاوضات السورية كعنصر أساسي من مكوّنات المعارضة الأمر الذي يزيد من حجم الوجود الروسي لحل الأزمة. من هنا، يمكن لروسيا استخدام نفوذها لدى الأكراد من أجل تحقيق الاستقرار في الشرق والجنوب الشرقي التركي. قد يكون هذا الموضوع من الأمور التي تم وضع الترتيبات حولها في أية مرحلة مُقبلة للمفاوضات السورية.

- مسار أنابيب الغاز إلى أوروبا والتي لا تزال قيد العمل، حيث أكّد أركادي دفوركوفيتش، نائب رئيس الوزراء الروسي، إن المشاريع المُشتركة بين روسيا وتركيا ما زالت مطروحة على جدول الأعمال، لا سيما مشروع السيل التركي لخط أنابيب الغاز الطبيعي تحت البحر، حيث قال دفوركوفيتش بأن مثل هذه المشاريع "واعِدة". هذه الخطوة تُبقي موسكو على عصب اقتصادها مفتوحاً، لا سيما سوقها الكبير المتمثّل في دول الاتحاد الأوروبي.

- الدرع الصاروخية التي تُشكّل هاجِساً كبيراً لدى موسكو وتحاول بشتّى الطرق الإفلات منه، علماً بأن قواعد الحلف الموجود في تركيا مجهّزة بصواريخ دفاعية لا هجومية، سيما وأن مقرّرات قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في مدينة وارسو وللمدينة دلالات هامة، رأت في موسكو "عدّواً"، وإن لم يكن بشكل ٍعلني، من خلال ما دلّت عليه الترتيبات العسكرية المَنوي اتخاذُها من قِبَل الحلف.

- تشكّل الممرّات البحرية التركية عصباً أساسياً للأسطول البحري الروسي المتواجد في البحر الأسود، حيث وقع العديد من الحوادث، لم يُسفر أي منها عن خسائر. من هنا، كان السعي الروسي للاتفاق مع الجانب الإيراني على حفر قناة مائية من بحر قزوين إلى بندر عبّاس للولوج إلى المياه الدافئة تحسباً لأي طارئ مستقبلي.

- دعم روسيا للنظام القائم في تركيا حتى ولو لم يكن "غير صديق" لها، حيث أن موسكو لا تؤمن بتغيير الأنظمة عبر الوسائل غير الديمقراطية أو استخدام القوّة على غِرار ما حصل في أوكرانيا وما يحصل في سوريا.

- قد يكون، ونقول قد، هناك مستقبل لتركيا ضمن الاتحاد الأوراسي سيما وأن حظوظها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد أصبحت شبه معدومة، خصوصاً وأنه لا توجد في الاتحاد الأوراسي حساسية ضدّ دولة إسلامية، لا سيما وأن روسيا نفسها تحتوي على جمهوريات إسلامية، بعكس الاتحاد الأوروبي الذي يرى في تركيا تغيّراً للديمغرافيا.

2- "تشنّج" العلاقة مع الأميركيين

يبدو أن العلاقات التركية مع الحلفاء التقليديين قد تكون في مرحلة اضطراب مُعيّن، وذلك من خلال العديد من المؤشّرات التي تدلّ على ذلك أبرزها:

وجود مشروع "أردوغاني" يتقارب مع التوجّهات الأطلسية، والأميركية تحديداً، ومُغاير عنه في نفس الوقت، إذ أنه من الواضح بأن الرئيس التركي يحاول الاستفادة من المشروع الأطلسي، لا سيما مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يظهر كل مرّة بأساليب مُختلفة، بالقَدر الذي يخدم حلمه "العثماني". من هنا، قد تكون هناك مصلحة أميركية بالانقلاب على أردوغان والانتهاء من هذه الحال لا سيما وأن واشنطن ترى في تركيا "دولة حليفة بنظام غير صديق".

- لا يُمكن غضّ النّظر عن الخلاف التركي – الأميركي حول قوات سوريا الديمقراطية، والتي تضمّ في غالبيتها أكراداً، التي تقاتل تنظيم "داعش" في الشمال السوري، حيث هدّدت أنقرة بضرب هذه القوات في حال تخطّت غرب نهر الفُرات لكن ذلك لم يحصل بسبب الغطاء والضغط الأميركيين المُتمثلين في احتضان هذه الحركة ودعمها وحمايتها ما يزعج الأتراك بشكلٍ كبيرٍ نظراً إلى الحساسية المُفرَطَة لديهم من القضية الكردية.

-إن الحديث عن تواجد الرئيس التركي في مكان آمن، والبعض يُشير إلى قاعدة أنجرليك العسكرية التي تُدار من قِبَل القوات الأميركية مباشرة وتدَخّل طائراتها الحربية لضرب الطائرات التركية التابعة للضبّاط الانقلابيين، وحمايته من قِبل واشنطن يتناقض مع تصريحات رئيس الوزراء بن علي يلدريم الذي قال، وبكل وضوح : "أقول للأميركيين يكفي مساندة التنظيم الموازي للإرهاب"، مُشيراً وبشكل ٍغير مُباشر إلى الداعية فتح الله غولن المَحمي من الإدارة الاميركية. فلقد حملت تصريحات الكثير من المسؤولين الأتراك اتّهامات ضمنية للولايات المتحدة بدورٍ في محاولة الانقلاب الفاشلة، مُستندة إلى قناعة الرئيس التركي بأن مؤامرة الانقلاب حيكَت من وراء الأطلسي في ولاية بنسلفانيا حيث يُقيم الداعية التركي.

- إضافة إلى ما سبق، أكّد العديد من وكالات الأخبار العالمية قيام السلطات الأمنية التركية بحملات تفتيش داخل القاعدة المذكورة، واعتقال العديد من الضبّاط الموجودين فيها ما قد يُشير إلى اتفاقٍ ما، أو على الأقل تنسيق ما، بين هؤلاء الضبّاط وآخرين من القيادة الأميركية.

-عند الإعلان عن الاتفاق الروسي – التركي، ظهر بعض المعلومات عن إمكانية سماح أنقرة للقوات الروسية باستعمال قاعدة أنجرليك الجويّة للقيام بضَربَات ضدّ المجموعات الإرهابية في سوريا، وهو ما نفاه رئيس الوزراء علي يلدريم في ما بعد. لكن الأحداث التي توالت تُشير إلى إمكانية الاتفاق على هذا الموضوع، لا سيما ما ذكره المتحدّث بإسم وزارة الدفاع الأميركية، بيتر كوك، الإثنين 18 تموز/ يوليو 2016، بأن التحالف الدولي ضدّ تنظيم "داعش" بقيادة واشنطن يمكنه الاستغناء عن قاعدة أنجرليك الجويّة التركية.

إضافة إلى ذلك، يرى بعض المراقبين بأن هناك سعياً للاستغناء عن هذه القاعدة العسكرية لقواعد أخرى تمّ الاتفاق على بنائها مع اقليم كردستان العراقي فإن تلك المعلومات، فمعنى ذلك رفع الغطاء عن النظام التركي الأمر الذي يدفعه إلى إيجاد حليف جديد في ظلّ تغيّر موازين القوى الدولية.

-يرى العديد من المراقبين بأن الجيش التركي "ممسوك" من قِبَل الأمريكيين، وإن أي تحرّك قد يقوم به لا يمكن إلا بعد أخذ الضوء الأخضر من قِبَل واشنطن. ويربط العديد من المراقبين ذلك مع موقف واشنطن في أوائل ساعات الانقلاب، فقد كان "متراخياً ومراوغاً"، وبعده حيث شدّدت على ضرورة احترام حقوق الإنسان في التعامل مع العسكريين الانقلابيين ومحاكمتهم.

- تصريح الرئيس التركي بوجود العديد من الدول وراء محاولة الانقلاب خصوصاً مع ورود بعض التسريبات التي تُشير إلى تورّط إحدى الدولة الخليجية، المُقرّبة من واشنطن، بتمويل الانقلاب.

3- مكاسب أردوغان

إلى ذلك، أخذ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الكثير من المكاسب السياسية جراء محاولة الانقلاب الفاشلة، أهمّها:

-يرى الكثير من المراقبين بأن التاريخ سجّل للرئيس أردوغان من ناحية إنه "ردّ للسياسة اعتبارها في تركيا، وطوى صفحة حكم العسكر بإعادتهم الى موقعهم الطبيعي في حماية حدود الوطن" لا سيما بعد تعديل عقيدة الجيش من حام ٍللجمهورية إلى حام ٍللحدود. فهذا الحدث أكّد تثبيت هذه العقيدة.

-من المكاسب المُهِمّة الأخرى التي حصل عليها الرئيس التركي إنه استطاع "التخلّص" من الكثير من المعارضين سواء في الجيش أو داخل الإدارت المدنية، وسِلك القضاء، حيث أعطته هذه المحاولة الفاشلة مسوّغاً مهمّاً لجهة التخلّص من خصومه السياسيين.

-ترسيخ حكم أردوغان داخلياً لا سيما بعد إعادة الانتخابات النيابية وعدم حصوله على الأغلبية اللازمة لتعديل الدستور لجهة تعديل نظام الحكم وقيام نظام رئاسي بدل النظام القائم في تركيا. فهذه الحادثة، ستمكّنه من إعادة المحاولة ولو بأساليب مختلفة.

-اقتناع تركيا بأن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي شبه مستحيل، وهذا ما دفع بالرئيس التركي إلى القول بأنه سيوقّع على قانون الإعدام في حال أقرّه البرلمان وأُعيد العمل به مع علمه اليقيني بأن مثل هذه الحَظوَة ستُبعده عن الانضمام وهو ما أشارت إليه بشكلٍ واضح ٍوصريح المُستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. إضافة إلى ذلك، يمكن رَصد تصريح لرئيس الوزراء الفرنسي السابق آلان جوبيه قال فيه أن لا مكان لتركيا في الاتّحاد الأوروبي فهي "ليست مدعوّة لأن تصبح يوماً عضواً كاملاً في الاتّحاد".

4- خُلاصات من الأحداث

في الختام، يمكن الخروج بالعديد من الخلاصات، أهمّها:

- إن الوضع في تركيا قد تغيّر نوعاً ما لجهة وجود شرخ داخلها.

- يرى بعض المحلّلين بأن الجيش لن يسكت على الإهانات التي وجّهت إليه لا سيما وأنه أساس قوّة النظام الحاكِم فيها، وسحل وقَتل جنوده ستكون له آثار غير محمودة.

- هذه الخطوة، إضافة إلى التنسيق مع روسيا، قد يكون جانباً إيجابياً لجهة الحرب في سوريا.

-إن الوضع التركي سيكون محل صراع ٍجديد ٍفي المنطقة.

/انتهى/

أهم الأخبار حوارات و المقالات
عناوين مختارة