خافوه فأخفوه.. 38 عاماً وغياب الصدر حضور

خافوه فأخفوه.. 38 عاماً وغیاب الصدر حضور

بعيون زرقاء استقت لونها من البحر وبريق كموج لا يهدأ، وكلمات ثائرة تصدح بلكنة فارسية، وهامة شامخة تعلوها عمة سوداء. وقف والصليب خلفه وكلام القرآن يتردد على شفتيه، في مشهد قل نظيره. ليكون بذلك من يليق به لقب الامام.

الواقع ان الامام موسى الصدر كان اول من كسر صورة رجل الدين النمطية، ليس من خلال انفتاحه على الاديان الاخرى فحسب، بل في انفتاحه على العلوم العصرية ايضا، ذلك لأنه أول معمم نال اجازة في الاقتصاد من جامعة طهران عام 1953.

اهتمامه بالعلم عاضده اهتمام بشؤون المجتمع، اذ جهد لنشر الندوات الثقافية من خلال عضويته الادارية في جمعية منتدى النشر في العراق. ولم يحصر نشاطه الثقافي بحدود جغرافية، فقد تولى رئاسة تحرير مجلة "مكتب الاسلام" في ايران، وهي أول مجلة ثقافية اسلامية تصدر في الحوزة العلمية، لذا كان لها وقع في تشكيل الوعي في ايران.

والواضح ان اهتمامه في نشر الثقافة الدينية كان ممنهجاً، فهو لم يغفل عن تطوير المناهج العلمية حيث عمد إلى تدوين مشروع اصلاح للمناهج بالاشتراك مع ثلة من كبار العلماء.

كل مواقع المسؤولية الدينية هذه التي تولاها الصدر، كانت كفلية لتجعل منه الخلف الكفء للسيد عبد الحسين شرف الدين، فكان اماماً لمدينة صور-جنوب لبنان في العام 1959.

وما ميّزه كامام فكره المؤسساتي اذ أنشأ مؤسسة جبل عامل المهنية، واعاد هيكلة جمعية البر والاحسان، كما انشأ مؤسسات  تعنى بالشؤون التربوية والصحية والاجتماعية.

وما عكس تميّز فكره، مشاركته في المراسم المسيحية لتتويج البابا بولس السادس. علاقته الحسنة هذه مع المسيحين عززتها لقاءاته المتكررة في الفاتيكان، وقد وازى هذا الانفتاح على المسيحين توطيد لعلاقاته مع المسلمين السنة، اذ كانت له لقاءات عدة في الأزهر.

والواقع أن السيد حاول التقريب بين السنة والشيعة في أدق التفاصيل واكبر المسائل، بدءًا من اقتراح رفع اذان واحد مرة حسب الطريقة السنية واخرى بحسب الطريقة الشيعية، وصولاً إلى الدعوة لتوحيد الشعائر الدينية بين المذاهب الاسلامية.

انفتاحه هذا لم يقتصر على اللبنانين بطوائفهم لاسيما حين قال "الطوائف المتعددة في لبنان نوافذ حضارية على العالم"، بل تجاوز حدود الوطن، اذ قام بجولة في اوروبا لشهرين، معلنا أن هدفه التعرف إلى الحضارات. كما سافر الى افريقيا الغربية مقدماً مساعدات رمزية للايتام في كل من ساحل العاج والسينيغال.

وكما اهتم السيد بأيتام أفريقا فقد اهتم بالشيعة -ايتام الدولة- لذا دعا لانشاء المجلس الشيعي الاعلى وأصبح رئيساً له، هذا المطلب كان مقدمة لحركة انمائية، اذ أنشأ لاحقاً هيئة نصرة الجنوب، كما ضغط لتأسيس مجلس الجنوب من خلال اضراب وطني، وقد هدف المجلس لتنمية الجنوب ورفع الحرمان عن لبنان.

نهضة الصدر لم تكن اجتماعية فحسب بل سياسية أيضاً، اذ أثار حملة تعبوية للدفاع عن الجنوب في وجه الاعتداءات الاسرائلية، مطالباً بتسليح المواطنين ودعوتهم للصمود، كما اصدر بيانات وألقى خطباً في المساجد والكنائس تحذر من اهمال الدولة لمهمة الدفاع عن الجنوب.

ولأن الاعتداءات الصهيونية كانت تشمل فلسطين أيضا، تصدى لها السيد من خلال جولة على بعض العواصم الاوروبية دعماً للقضية الفلسطينية، حيث عقد مؤتمرا صحفياً في ألمانيا أوضح فيه حقيقة القضية الفلسطينية، مندداً بمحاولات تهويد القدس.

وقد آمن السيد أن " للقدس دربًا واحدًا وهو البندقية"، لذا قام بزيارة جبهة السويس حيث دعا الى ضرورة اعلان الجهاد المقدس في سبيل تحرير فلسطين، كما أعلن في خطبة له ان تحرير فلسطين هو سعي لانقاذ المقدسات الاسلامية والمسيحية وسعيٌ لتحرير الانسان.

ولأن السيد ذو قول وفعل، فقد أعلن ولادة "أفواج المقاومة اللبنانية - أمل" التي اتخذت من تحرير الارض والانسان هدفًا لها منذ انطلاقتها في العام 1974.

والواقع انه حاول توجيه البوصلة نحو فلسطين المحتلة، من خلال التقريب بين وجهات نظر القيادة السورية والفلسطينية.

تقريب وجهات النظر العربية، هذه وازاها محاولة توفيق للاقطاب اللبنانية المتنازعة ابان الحرب الاهلية، ولم يرَ ان الحل لانهائها يكمن في العلمنة، بل اوجد حلاً وسطاً لا "يسلب الجماهير المؤمنة مكاسبها" فقد اقترح نظامًا مدنيًّا متدينًا، مقدماً اقتراحات حول الاصلاحات السياسية والاجتماعية.

فكره السياسي لم ينحصر في لبنان، بل تجاوزه الى ايران اذ كان من الداعمين للثورة الاسلامية ضد الشاه بقيادة الامام الخميني .

ولأن الظلم ظل قائما اذ توالت الاعتداءات الاسرائيلية واجتِيح لبنان، قام السيد بجولة على عدد من الرؤساء العرب، وبناء على دعوة من السلطات الليبية توجَّه سماحته الى عاصمتها طرابلس، وهناك انقطع الاتصال به وبمرافقيه السيد عباس بدر الدين والشيخ محمد يعقوب عام 1978، إلا أن ليبيا ادَّعت تركهم أراضيها متجهين إلى إيطاليا، الا ان التحقيقات لم تثبت ذلك.

خافوه فأخفوه ولم يبق له أثر سوى حقيبة يعلوها جواز سفر "فيا كلّ أيام العذابات اشهدي.. أنّا امتطينا صهوة الجرح الذي ظنّوه قاتلنا... وما زلنا نجوب قفار هذا الكون، نبحث عنك سيّدنا"*.

38 عاماً لازلنا نبحث عنه، لم يعد.. لكن وجدنا شيئاً من طيفه في روح كل مقاوم، في بريق كل نصر، وفكر كل انسان حر.

*قصيدة للسيدة رباب الصدر

المصدر: العهد لبنان

/انتهي/ 

أهم الأخبار حوارات و المقالات
عناوين مختارة