"شب يلدا".. ليلة اللمة والتعايش التي ينتظرها الإيرانيون

تستند المعتقدات الإيرانية القديمة كسائر التقاليد المتبقية من العصور القديمة، على الهوية الثقافية. وهناك قصص مختلفة حول سبب الاحتفال بليلة يلدا وجميعها تؤكد على التعايش السلمي للإيرانيين مع الطبيعة.

مع انتهاء آخر ساعة من الخريف وقدوم الشتاء، تأتي "يلدا" بشعرها الأسود الطويل وفستانها الأبيض، لتغطي على الخريف وألوانه الزاهية، وتستقبل الشتاء بفرحة، هكذا تشير الأسطورة في إيران إلى ليلة "يلدا" أو "شب يلدا" باللغة الفارسية، مشبّهة إياها بالأنثى.

حيث يحتفل الإيرانيون ضمن أجواء من الفرح والبهجة بليلة يلدا، وهي أطول ليلة وآخر ليالي الخريف حسب التقويم الشمسي، وتصادف يوم 21 ديسمبر/كانون الأول، حيث تسهر العائلات حتى بزوغ شمس اليوم التالي إحياء لهذا التقليد.

ويلدا هي كلمة سريانية، وتعني ميلاد أو الولادة، حسب معجم "دهخدا" الفارسي. ومع تقدم الدورة الشمسية طوال العام، تصل الشمس في آخر الخريف إلى أخفض نقطة في الجنوب الشرقي فتقل ساعات النهار ويطول الليل.

ولكن مع أول يوم في الشتاء، تبدأ الشمس بالعودة نحو الشمال الشرقي في مدارها ليحدث العكس حيث تزيد ساعات النهار ويقصر الليل، وهو ما دفع الناس قديما لتسمية هذه الليلة بيوم ولادة الشمس أو إعلان ميلادها مجددا.

يذكر محمود روح الأميني في كتابه "الطقوس والاحتفالات القديمة في إيران"، أن جذور الاحتفال بليلة يلدا يعود إلى ديانة الميترائية في إيران قبل آلاف السنين، وهي ديانة متعددة الآلهة، حيث تحدثت الأساطير عن أن إله النور تفوّق في هذه الليلة على إله الشر والظلام "أهريمن".

وفي قديم الزمان وقبل ظهور وسائل الإعلام، كانت تنقل الثقافات عبر القصص والحكايات من جيل إلى جيل، وليلة اليلدا هي فرصة ثمينة لنقل هذه الحكايات وقراءة الكتب القيّمة لجيل جديد ضمن اجتماع عائلي حميمي.

ومن أشهر الكتب التي تقرأ في هذه الليلة كتب الشعر القديمة لحافظ شيرازي وشاهنامه فردوسي (سير الملوك)، والتي تتميز بأنها تدعو الناس إلى أعمال الخير، كما أنها تروي التاريخ وشجاعة الأقدمين. ولإضفاء روح جمالية على هذه الليلة، لا بد لكل شخص من التفاؤل بتنجيم صفحة من كتاب شيرازي.

وتتكون سفرة يلدا من الشموع والورود والكتب، وكذلك من المكسرات والحلويات والشاي والفاكهة، وخاصة الرمان والبطيخ اللذين يعتبران أساسيين في هذه الليلة.

ويعود وجود الرمان والبطيخ على مائدة يلدا إلى أن الرمان هو رمز الفرح والولادة منذ القدم، إذ يؤثر على تنقية وزيادة الدم في الجسم، مما يساعد على تنشيط الفرد، ويعتقد الأقدمون أيضا أن تناول قليل من البطيخ الذي يرمز للصيف والحرارة، يحمي الشخص من برد الشتاء.

يستقبل الآباء والأجداد أولادهم في بيوتهم ويقيمون السهرات العائلية التي تستمر في بعض الأحيان حتى فجر اليوم التالي، ويعتبر هذا التجمع العائلي طريقة تنسيهم ظلمة الليل الطويل وبرد الشتاء وتمنحهم الأمل.

وتعد ليلة «يلدا» أطول ليلة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية التي اكتشفها الإيرانيون قبل ثلاثة آلاف سنة؛ وتمتد لفترة زمينة تبدأ من غروب شمس يوم 21 ديسمبر/كانون الأول إلى فجر اليوم التالي.

ومن بداية فصل الصيف، تأخذ الشمس بالشروق من مكان أدنى قليلا عن مكانها في اليوم السابق عند أفق البزوغ، وتستمر هذه الحالة حتى تصل الشمس في بداية الشتاء إلى أدنى مستوى جنوبي لها يعرف بنقطة (الاعتدالين). وانطلاقا من هذا اليوم وما بعده، تتبع نقاط شروق الشمس حركة عكسية، حيث تتجه مجددا إلى الأعلى وتعود مرة ثانية إلى الانقلاب الصيفي.

وهذه العودة الجديدة للشمس إلى الجهة الشمالية الشرقية وتصاعد وتيرة طول الأيام، كانت لها مكانة خاصة عند معتقدات الناس في الماضي السحيق. فكان القدماء يعتبرونها لحظة ولادة جديدة للشمس، ما يجعلهم يحتفون بها بإجلال وإكرام.

وفي هذه المراسم التراثية تربط بين الأجيال المختلفة إذ يقوم الناس في هذه الليلة بزيارة كبار السن والاهتمام بصلة الأرحام. لافتاً إلى أن بعض السنن والتقاليد الإسلامية قد دخلت في هذه المراسم كتلاوة القرآن وقراءة بعض الأدعية ورواية الأحاديث والقصص الدينية.

ومن الضروريات التي تصحب هذا التجمّع الاسري هي مشاركة الأقارب وخاصة كبار السن، وذلك يرمز الى شيخوخة الشمس في نهاية الخريف، فضلاً عن توفير أطعمة وفواكه عدة لقضاء هذه الليلة الطويلة منها البطيخ الأحمر الذي يعتبر سيد المائدة ثم الرمان والعنب والفاكهة الطازحة والمكسرات وكل ما يميل لونه الى الأحمر لون الشمس.

كما أن من العادات والتقاليد التي مازال الايرانيون يحتفون بها في «ليلة يلدا» هي أخذ الفأل من ديوان الشاعر حافظ الشيرازي، وهم يقرأون أبياتاً من أشعاره وقصائده، وذلك من أجل أن ينتابهم السرور والحظ السعيد في الحياة. وفي بعض أرجاء ايران، يقبل الناس على قراءة وانشاء اشعار من كتاب «الشاهنامة» (أي سير الملوك) للشاعر الملحمي الايراني أبي القاسم الفردوسي. هذا وسرد القصص والذكريات من لسان الآباء والأجداد في الأسرة هو الآخر يضفي صفاءً وهناءً خاصاً على الأجواء التي تسود هذه الاحتفالية الليلية. وتأتي كل هذه العادات والمراسم أساساً لتجتمع الأسر والعوائل مع بعضها، وهم يحتفلون بأطول ليلة في السنة بكل فرح وسرور ومحبة.

وفي قديم الأزمان كان يجلس أعضاء الأسرة والأقارب حول مدفأة تسمي «الكرسي» وهي عبارة عن منضدة خشبية كبيرة تسع لعدة أشخاص تغطي عادة بقطعة قماش غالباً ما تكون ألوانها زاهية يوضع تحتها مجمر الفحم الذي يدفئ‌ الغرفة تدريجياً؛ وقد زال هذا التقليد بعد تطور أساليب التدفئة وتغير نمط الحياة.

ويحيي الإيرانيون هذه الليلة إيذاناً بقدوم الشتاء؛ غير أن السبب في الاستمرار بهذا التقليد الإيراني يعود لقدرته على لم شمل العائلات التي تغتنم هذه الفرصة للتجمع وتوثيق صلة الأرحام. كما تنظر إليه كنوع بالارتباط بالماضي في مناسبة تتعلق بالتراث الشعبي والإسلامي الذي ورثوه من أسلافهم.

لا قواعد تحكم احتفال يلدا، فكل قومية تحتفل بالأنشطة والألعاب والأطعمة الخاصة بها في هذه الليلة. فهناك من يرسل الهدايا إلى بيت عروس جديدة، ومنهم من يأكل نوعا محدداً من الزبد المستخرج من الخشب في خراسان، والبعض يلعب ألعابا مختلفة كلعبة الأسماء والمشاعرة واختيار الفنجان الصحيح من بين الفناجين.

/انتهى/