تبرئة مبارك.. ثلاثة عصافير بحجر واحد


تبرئة مبارک.. ثلاثة عصافیر بحجر واحد

تبرئة مبارك ما كان لها أن تتم إلا بعد العودة إلى التقليد الفرعونى القديم الذى بمقتضاه كان الفرعون الجديد يمحو تاريخ من سبقه، ليبدأ تاريخ البلاد بعهده غير المسبوق. وما حدث فى قضية مبارك قريب من ذلك، ذلك أن تبرئته اقتضت محو تاريخ الثورة وتشويه وقائعها واستبدالها بتاريخ جديد كتبته عناصر الدولة العميقة.

حين برأ القضاء الرئيس الأسبق حسنى مبارك من جريمة قتل ثوار ٢٥ يناير، فإن ذلك جاء تتويجا وربما ختاما لمهرجان البراءة «للجميع» الذى استمر طوال الثلاث سنوات الأخيرة. إذ بدأ بتبرئة ضباط الشرطة الذين اتهموا بقتل الثوار فى نحو ٤ قضية رفعت ضدهم، واستمرت البراءات مع أركان نظام مبارك ووزرائه. إلى أن انتهى الأمر بتبرئة رأس النظام ذاته. صحيح أن ذلك تزامن مع مسلسل إدانة واعتقال شرائح من شباب الثورة، إلا أن ما يهمنى فى اللحظة الراهنة أن تبرئة مبارك أيقظت خلاياه «النائمة» التى عادت إلى ترديد معزوفة «المؤامرة» التى قيل إنها كانت وراء الثورة، وذهبت أبواق تلك الخلايا فى تلويث الذاكرة الوطنية مذاهب شتى ودارت كلها فى فلك شيطنة الحدث الكبير الذى سيظل صفحة ناصعة البياض فى تاريخ مصر وشعبها.

تبرئة مبارك ما كان لها أن تتم إلا بعد العودة إلى التقليد الفرعونى القديم الذى بمقتضاه كان الفرعون الجديد يمحو تاريخ من سبقه، ليبدأ تاريخ البلاد بعهده غير المسبوق. وما حدث فى قضية مبارك قريب من ذلك، ذلك أن تبرئته اقتضت محو تاريخ الثورة وتشويه وقائعها واستبدالها بتاريخ جديد كتبته عناصر الدولة العميقة. وهو ما أصاب ثلاثة عصافير بحجر واحد، من ناحية لأنه أدى إلى تبرئة الرجل، ومن ناحية ثانية فإنه غدا إعلانا عن أن الثورة لم يكن لها لزوم أو مبرر من الأساس، بالتالى فإن إسقاط نظام مبارك كان خطأ فادحا وحماقة كبرى. وإذ أسعد ذلك مبارك وأعوانه كما أسعد الذين ساندوه فى الداخل والخارج، ليس فقط لشخصه ولكن لكى لا تتكرر تلك «الحماقة» فى أى بلد آخر، وذلك هو «العصفور» الثالث.

تلويث الذاكرة لم يعد مقصورا على الوقائع والأحداث التى تعاقبت خلال الثورة وأدت إلى الإطاحة بمبارك ونظامه، لكنه شمل دائرة أخرى استهدفت الهوية الإسلامية للمجتمع. ذلك أن الصراع مع الإخوان ألقى بظلاله على جموع النشطاء الإسلاميين الذين تعرضوا جميعا للاغتيال المعنوى، وتم تصنيفهم إعلاميا فى مربع المؤامرة المشبوهة. الأمر الذى لم يؤد فقط إلى تشويه الحالة الإسلامية وشيطنة مكوناتها، ولكنه أدى أيضا إلى إصابة العلاقة مع الإسلام ذاته بالتوتر والنفور. وذلك التشوه الأخير هو أكبر ما يهمنى فى الموضوع.

كنت قد دعوت فى مقالة الثلاثاء الماضى (٢٨/٢) إلى ترشيد الصراع الراهن فى مصر، واعتبرت أن الفرز والتمييز بين الفصائل الموجودة فى الساحة خطوة مهمة لتحقيق الترشيد المنشود. وتمنيت بذلك ألا يوضع الجميع فى سلة واحدة الأمر الذى يحرم الوطن من خير كثير يؤدى إلى إضعاف السياسة والمجتمع. فضلا عن الظلم الذى يلحقه بالأبرياء وأهل الاعتدال. وأزعجنى أننى تلقيت ردودا لأناس بعضهم صنفوا الجميع باعتبارهم أشرارا، وبنوا على ذلك أن إبقاءهم فى السجون هو الحل الوحيد لاتقاء شرورهم. آخرون استقبلوا الدعوة بامتعاض باعتبارها رِدَّة ونكوصا يتعارض مع الدولة المدنية التى دعا إليها الدستور. ووجدت فى كتاباتهم انتقادا لاذعا للثقافة الدينية التى ذكر أصحابها أنها مصدر التطرف والإرهاب.

صحيح أننى وجدت فى بعض الردود ملاحظات جديرة بالمناقشة، لكن ملاحظتى الأهم أن أغلب آراء المعارضين استندوا إلى معلومات مغلوطة استقوها من وسائل الإعلام والتليفزيون فى المقدمة منها، وكانت الرسالة التى وصلت إلى هؤلاء أن التعايش بات مستحيلا مع «المشبوهين» الذين يغارون على هويتهم. ولم يكن لذلك من تفسير إلا أن أصحاب تلك الأصوات من ضحايا حملة تشويه الوعى التى خلطت الأوراق وروجت لتأبيد الخصومة إبان سنوات الصراع، التى اعتبر فيها الخلاف فى الرأى صراعا على الوجود ومسوغا للاقتلاع والإبادة.
على ذكر الهوية، فإننى وجدت ملاحظات مهمة فى نتائج استبيان حول اهتمامات جيل الشباب المسلم رعته مبادرة الدراسات المستقبلية فى مؤسسة طابة (مقرها أبوظبى)، وقامت بتنفيذه مؤسسة جيمس زغبى للخدمات البحثية فى الولايات المتحدة. إذ شمل الاستبيان ٥٣٧٤ شخصا من ثمانى دول عربية، وفى الجزء الخاص بالهوية سئل الشباب عن مصدر اعتزازهم بها، وهل هو راجع إلى الانتماء الوطنى القطرى أم لانتماء العربى أم الدينى أم العائلى والقبلى. وكانت الإجابات كالتالى:

• أعلى نسب الاعتزاز بالانتماء الوطنى كانت بين المغاربة (٥٩٪) يتلوهم الفلسطينيون ٥ ٪ ثم المصريون ٤٣٪. أما أدنى النسب فكانت بين الإماراتيين (١٤٪) والأردنيين (١٩٪).

• أعلى نسب الاعتزاز بالهوية العربية كانت بين الإماراتيين (٦٦٪) يتلوهم الأردنيون (٥٦٪). أما أقل نسبة فكانت بين المصريين (٥٪).

• أعلى نسبة للاعتزاز بالانتماء الدينى كانت فى مصر (٤٩٪) تتلوها البحرين (٤٢٪).

• أعلى نسبة للاعتزاز بالانتماء القبلى كانت فى فلسطين (١٤٪) تتلوها الأردن والكويت (كل منهما ١ ٪).

ثمة كلام كثير يقال فى تحليل تلك النتائج لكن يهمنا فى السياق الذى نحن بصدده تراجع نسبة الاعتزاز بالانتماء العربى لدى عينة الشباب المصرى، إذ وصلت تلك النسبة إلى ٥٪ فقط. فى حين أن الانتماء بالهوية الدينية احتل مكانة متقدمة، هى الأكبر بين الدول العربية الثمانى (٤٩٪) لكن هذه النسبة العالية موجودة بين الشباب الذين اشتركوا فى الاستبيان، وليس بين النخب التى تشكل الرأى العام. ذلك أن ما تثيره تلك النخب من لغط وجدل عبر وسائل الإعلام يعطى انطباعا مغايرا لا يرقى إلى تلك النسبة.

الخلاف حول ما إذا كان الذى حدث فى ٢٥ يناير ٢ ١١ ثورة أو مؤامرة، أو ما حدث فى ٣ يونيو ٢ ١٣ ثورة أم انقلابا أقل خطورة من الخلافات الأخرى التى ظهرت على سطح المجتمع وأحدثت شقوقا عميقة فى بنيانه، حتى شككت فى قيمه الأساسية التى استقرت فى وجدانه، فالخلاف محتدم حول دور الدين فى المجتمع، وحول مدنية الدولة وعسكرتها، وحول حدود التعددية والديمقراطية والمواطنة. وإذ أشرت إلى مسألة الهوية فإن الأزمة فيها أثارت خلافا حول الوحدة العربية وشملت موضوع العلاقة مع إسرائيل. وهل يكون التطبيع داخلا فى الوطنية أم خارجا عنها. وهذا الخلاف استصحب تساؤلا حول العدو والعقيدة القتالية. وما إذا كان العدو هو إسرائيل أم إيران أم الإرهاب.

إذا صح ذلك التحليل فهو يعنى أن «التعويم» شمل الثوابت والمرجعيات التى يمكن الاسترشاد بها والاحتكام إليها، الأمر الذى يضعنا أمام أن يصبح الإجماع الوطنى إزاءه فى خطر داهم.

أعرف الثوابت ابتداء بأنها كل ما يتوافق عليه المجتمع. لتستقيم به حياة الناس ويقوم عليه استقرارهم بما يعبر عن أشواقهم ومصالحهم العليا. إن شئت فقل إنه كل ما هو ضرورى لصلاح أمر الدنيا ولاستقرار المجتمعات وطمأنة أفرادها، ولأن الثقافات تتباين وكذلك الطبائع والأعراف، فإن الثوابت يمكن أن تختلف من بيئة إلى أخرى، وغنى عن البيان أنها لا يمكن أن تنفرد بها فئة فى المجتمع لتمليها على فئة أخرى، الأمر الذى يتعارض مع التوافق المنشود.

وإذا قيل إن الدستور يعد وثيقة تحدد التوافق المجتمعى، فلا تعد هذه حجة كافية لسببين، الأول أن نصوص الدستور يمكن التلاعب عند وضعها ما لم يسبق ذلك توافق حول واضعيه، والثانى أنه فى ظروف سياسية معينة يمكن للسلطة أن تعصف بمواد الدستور، كان ينص مثلا على تجريم التعذيب وحرية التظاهر السلمى والتعبير، كما ينص على حق تشكيل الجمعيات الأهلية، ثم يمارس التعذيب جهارا نهارا، ويقيد التظاهر بقانون يحظره وتستخدم مختلف الحيل لمصادرة حرية التعبير وملاحقة الجمعيات الأهلية. وغنى عن البيان أن السلطة لا تستطيع أن تتلاعب بالدستور على ذلك النحو إلا إذا اطمأنت إلى ضعف دفاعات المجتمع واستقلال مؤسساته الوطنية.

هكذا فإنك من أى باب دخلت إلى الموضوع ستجد أنك واصل إلى ذات النتيجة. فالثوابت لا يمكن إشهارها إلا فى ظل التوافق الوطنى والتوافق الحقيقى لا يمكن أن يتم إلا فى ظل ديمقراطية تحتوى الجميع وتحترم حق الاختلاف والتنوع. والدستور لا يمكن الاطمئنان إليه إلا إذا وضع فى ظل التوافق والتراضى بين مختلف مكونات المجتمع. والمجتمع لا يمكن له أن يدافع عن نفسه إلا إذا استعاد عافيته. وعافيته تتمثل فى قوة مؤسساته الأهلية واستقلالها. والحرية والديمقراطية هما المصدر الوحيد الذى يوفر تلك القوة. وبغير ذلك فإن الثوابت والمسلَّمات تصبح فى خطر، وكل ما يترتب على تزييفها يصبح باطلا ومطعونا فى شرعيته. توافقوا تصحوا أثابكم الله.

 كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى

/انتهي/ 

الأكثر قراءة الأخبار الدولي
أهم الأخبار الدولي
عناوين مختارة