القدس طريق الحق ومنبع الشرعية الوحيد

القدس طریق الحق ومنبع الشرعیة الوحید

لم يكن إعلان الإدارة الأمريكية - عبر "وعد ترامب"- عن نقل سفارتها في فلسطين (المحتلة) من "تل أبيب" إلى مدينة القدس المحتلة كخطوة اوليه كاشفة عن وعي قادة المشروع الغربي– الصهيوني بأهمية ومركزية القدس في عملية إخضاع واستتباع هذه المنطقة للمشاريع الغربية الاحتلالية.

خاص تسنيم: بينما جاءت الخطوة الثانية متمثّلة بقيام الإدارة ذاتها بإلغاء تسمية الأراضي المحتلة في تقاريرها عن الوضع في فلسطين المحتلة لتوحي أن الأمر مجرد نزاع داخلي جانبي يمكن حلّه بصفقة ما، لا احتلال استيطاني غاشم يتوجب إزالته بالكامل.

بيد أن الإعلان عن نقل السفارة إلى القدس المحتلة، رغم سلبياته العديدة وتعارضه مع القانون الدولي، كان له جانب إيجابي، لأنه كان "إعلاناً أعاد الأمور إلى نصابها بوصف القدس مفتاحاً للحرب والسلام في المنطقة"، حسب السفير الفلسطيني في المملكة المغربية جمال الشوبكي، فالإعلان أظهر المكانة التي تتمتع بها مدينة القدس عند طرفي المعركة بوصفها المعركة المفصلية التي ستحدد نتيجة الصراع عليها الوجهة النهائية للحرب الدائرة بين مشروعين متعارضين ومتناقضين موضوعياً وتاريخياً، مشروع الهيمنة والإخضاع ومشروع الاستقلال الوطني والقرار الحر المستقل لأبناء المنطقة.

ومن نافل القول أن دول "الاعتلال العربي" لم تتأخر في إعلان انضمامها إلى مشروع الهيمنة والإخضاع عبر التصديق الأعمى على مضمون "وعد ترامب" المشؤوم، فبعد قيادة هذه الدول لمهزلة ما يسمى "الجامعة العربية"، في اجتماعاتها المتعددة على مختلف درجاتها، التي أدانت الإعلان لفظياً وحرفت الأنظار عنه عملياً عبر عدم إعلانها عن أي خطوات عملية لمجابهته، جاءت زيارة وفود رسمية علنية وسرية لكيان الاحتلال، ومنها وفد بحريني علني يحمل رسالة "سلام وتسامح"، كما قال أفراده، لتقول، في الشكل والمضمون والتوقيت: إن هذه الدول جاهزة لتنفيذ ما يترتب عليها لتمرير "الوعد" بأقل الأضرار الممكنة.

إذن، تمرّ القضية الفلسطينية بمرحلة دقيقة جداً، وربما تكون مفصلية، لتحديد وجهتها المقبلة، في ظل ظروف إقليمية ودولية، شديدة التعقيد، كان لقوى الاستكبار الغربية والصهيونية العالمية الدور الأكبر في إنتاجها لتمرير مخططاتها ومشاريعها، على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ويمكن القول:

إن "صفقة القرن" هي أخطر هذه المشاريع على الإطلاق، وهي صفقة رسم خطوطها، إضافة لآخرين، الفريق السياسي في الإدارة الأميركية، المسؤول عن الملف "الإسرائيلي"- العربي، والمؤلف من ثلاثة متطرفين يهود لا يخفون تأييدهم لكل مواقف الحكومة اليمينية المجرمة في "إسرائيل"، بما في ذلك موقفها من مواصلة الاستيطان، وهم، حسب محللين مطلعين، كل من "جاريد كوشنير" صهر الرئيس ترامب، و"جيسون غرينبلات" المبعوث الخاص للسلام في الشرق الأوسط.

والسفير الأميركي في "إسرائيل" ديفيد فريدمان صاحب القول الشهير: "إن الاستيطان قانوني لأن اليهود يستوطنون في أرضهم".

وبالطبع فإن التطبيع الكامل بين العرب والكيان الغاصب هو خطوة ضرورية جداً لتمرير هذه الصفقة، الأمر الذي لاقته مملكة الرمال الوهابية بولاة أمرها والدول التي تدور في فكلها بإعلان القبول والرغبة في نقل عملية التطبيع من مرحلتها السرية السابقة إلى العلن، دون التزام الصهاينة بما سمي مبادرة السلام العربية التي كانت تستر على الأقل "عورة" الدول المطبّعة من حيث بنودها المقبولة نوعاً ما.

وللوصول إلى تنفيذ سليم وسريع لهذه الصفقة وتهيئة الأجواء الإقليمية لنجاحها، تم العمل على ثلاثة مسارات متوازية:

الأول إسقاط الأنظمة العربية التي تعارض وترفض أي تغيير في جوهر الصراع، وكانت العقدة سورية قلب محور المقاومة، وهذا يفسر ما يحدث فيها منذ أكثر من سبع سنوات.

والثاني تعزيز الانقسام بين القوى الفلسطينية الرئيسية ولاسيما الفصائل الكبرى "فتح وحماس".

والثالث محاولة خلق عدو بديل عن "إسرائيل" لتوجيه الأنظار إليه.

وقد وجدوا بغيتهم في إيران التي أصبحت عند هؤلاء سبب كل مشكلة ومعضلة منذ بدء الخلق إلى الآن، بينما السبب الحقيقي هو وقوف إيران وثورتها الإسلامية إلى جانب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني بكل ما ملكت من قوى ومقدّرات، ولتحقيق خطتهم الدنيئة هذه عمدوا إلى إشعال نار الصراع المذهبي حتى في دواخل الدول العربية ذاتها، وهذه هي مهمة وسائل إعلام وفضائيات الفتنة المذهبية المموّلة من قبل الدول العربيه في الخليج الفارسي، وحذروا من "هلال شيعي" مزعوم، وساندوا ترامب في سعيه لإلغاء الاتفاق النووي ومحاصرة إيران، بل شجعوا "إسرائيل" على قصفها رغم ما سيجره ذلك كله على المنطقة من ويلات ودمار.

وهنا لا يمكن إنكار أن هذه القوى نجحت إلى حد كبير في تشتيت الأنظار عن فلسطين ومركزيتها كقضية، عبر إشغال الرأي العام العربي والإسلامي وحتى الدولي تارة بما يجري في سورية، وتارة أخرى بتهديدٍ ملفّق قادم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحت ذريعة مصادرة قرار "العواصم العربية" وتدخلها المزعوم في اليمن.. وربما كان الأخطر ما حاولته المملكة الوهابية عبر بعض الأقلام المأجورة لفكرها الوهابي الأسود من محاولة ترسيخ فكرة أن فلسطين المحتلة لم تذكر في القرآن الكريم، بينما "إسرائيل" مذكورة، وذلك في محاولة لتحريف المعنى الحقيقي للنصوص القرآنية وحرف الوعي لدى الشارع العربي والإسلامي بالدرجة الأولى عن بوصلته الرئيسية، بينما أعطى ولي عهد المملكة الوهابية محمد بن سلمان الحق لنفسه في الحديث عن "حَق اليَهود بإقامة دَولتِهم على جُزء من أرض أجدادهم" في تجاوز سافر وعلني لكل الخطوط الحمراء.

وعليه لم يكن ترسيخ الإمام الخميني ليوم الجمعة الأخيرة من رمضان يوماً للقدس الشريف بعد أن قام بعملية استبدال "سفارة الكيان الصهيوني" في طهران بسفارة فلسطينية، سوى عملية كاشفة عن فهم إيراني عميق، وبالتالي عن وعي أصيل مقاوم، بمركزية مدينة القدس في عملية النضال الطويلة الأمد ضد المشروع الصهيوني - الغربي الهادف إلى إركاع هذه الأمة وإدامة احتلالها وسلب خيراتها عبر زرع مشروع استيطاني احتلالي تبدو السيطرة على القدس برمزيتها الجغرافية والمعنوية قلب هذا المشروع وأساس نجاحه المأمول.

ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن هذا الفهم "الخميني"، إذا جاز التعبير، لمركزية القدس وتعميقه بخطوات لافتة على الأرض، هو عملية قطع تاريخي مقاوم مع سياسة "الشاه" البائدة، بعد أن وضعت الثورة الإسلامية في إيران كل مقدراتها المادية والمعنوية في سبيل تحرير فلسطين، فدعمت بالمال والسلاح كل مقاوم دون النظر إلى توجهاته الدينية أو السياسية، وبالتالي تسديد ضربة موجعة للمشروع الغربي الذي كان "الشاه" أحد أدواته وأذرعه في المنطقة حيث لقب حينها بـ"الشرطي"، وكانت الطائرات الصهيونية تستخدم وقوده في كل عدوان لها على الأمة العربية، ليصبح الموقف الإيراني الجديد بعد الثورة الإسلامية نقطة تحول واضحة في المعركة الجارية على مقدّرات المنطقة ومستقبلها.

وبهذا الإطار أثبتت الوقائع الممتدة منذ عام النكبة الفلسطينية حتى اليوم، أن الرفض اللفظي والإدانات البلاغية التي دأبت عليها الجامعة العربية بقياداتها المتخاذلة لا تعني الكثير في وجه نظام "الأبارتيد" الجديد، فالحق يحتاج إلى سيف يحميه، وخاصة في هذه المرحلة التي تصبح فيها "إسرائيل" أكثر تشدداً وعدوانية مستندة إلى حقيقة أن العرب يتجهون للمزيد من التنازلات كما في مسيرة دول الاعتلال العربي وفي قلبها دول الخليج الفارسي التي تتماهى مع المشروع الصهيوني بوصفها معاً مشروعاً استثمارياً غربياً لإدامة نهب ثروات المنطقة، مقابل بقاء سلطات باعت، في الأغلب الأعم، فلسطين بكراسيّ مذهّبة لملوك وأمراء لم تكن فلسطين تمثل لهم سوى قطعة أرض لا مانع "من إعطائها لليهود أو لأي طرف آخر" كما كشفت وثائق الخارجية البريطانية عن وعد الملك عبد العزيز آل سعود بخط يده بالتنازل عن "جزء من أرض فلسطين لليهود المساكين".

والحال أن القدس كانت، ولا تزال، زهرة المدائن، ومدينة السلام المقدسة عند أتباع الديانات السماوية التي شعّت أنوارها من المنطقة، ففيها وبجوارها عاش العديد من الأنبياء، وعلى ثراها أقيمت كنيسة القيامة بما تعنيه للمسيحية في العالم أجمع، ومن مسجدها الأقصى المبارك، الذي كان أول قبلة للمسلمين، كان معراج سيدنا محمد (ص) إلى السماء، وتعايش فيها أتباع الديانات الثلاث بأمن وأمان منذ الفتح العربي حتى قدوم الصليبيين الذين حطموا هذا التاريخ الآمن فقتلوا وذبحوا وشردوا السكان دون تفرقة بين صاحب دين وآخر لمصلحة مشروعهم الاستعماري الذي يبدو أن الحركة الصهيونية قد استلهمت أساليبه الدموية في القتل بهمجية ووحشية لا ترحم دون تفرقة أيضاً بهدف احتلالها وتهويدها، بحيث تكون عاصمة نهائية للمشروع الصهيوني – الغربي المسمى "إسرائيل" وهو ما يتبدى في إجراءاتها غير المشروعة لتغيير الوضع الديموغرافي والمكاني والمس بتراث المدينة المقدسة الحضاري والإنساني، وبالتالي تحويلها، مع فلسطين بكاملها، خنجراً دامياً في قلب المشروع الطبيعي لأبناء المنطقة.

لهذه الأسباب مجتمعة تعدّ معركة القدس معركة مركبة وذات أبعاد تتجاوز المدينة بجغرافيتها المحدودة، فهي، أي القدس، عنوان معركة استعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وعنوان معركة المشروع المستقبلي المسالم للمنطقة بأكملها، كما إنها عنوان معركة احترام القانون الدولي وعدم السماح بتغيير الحقائق التاريخية بقوة الظلم لجميع الشعوب المستضعفة ولكل الأحرار في العالم أجمع.

واليوم، وبعد هذه الفترة الزمنية الطويلة وما جرى فيها، أصبح من الواضح للجميع أنه لا يمكن التعويل على هذه الأنظمة التابعة لإعادة الحقوق لأصحابها، وهنا من المفيد التذكير بمقولة تلك الطفلة الفلسطينية التي كانت الأصدق حين قالت: "لا تحدثوا ضجيجاً فالعرب نائمون"، وإنما التعويل هو على شباب فلسطين، وشباب القدس في قلبهم، الذين، ورغم أنهم ولدوا وتربوا في كنف اتفاق أوسلو المشؤوم، لم يترددوا لحظة واحدة في الدفاع عنها عبر تنفيذ العمليات الفدائية فيما عرف بـ"هبة السكاكين" في دليل على أن القدس محفورة في وجدانهم، وكل محاولات العدو الصهيوني لوأد ذاكرتهم الوطنية لم ولن تنجح في حرفهم عن قضيتهم وقدسهم، والتعويل الأكبر أيضاً على محور المقاومة الممتد من سورية إلى إيران بدوله وقياداته الوطنية وأحزابه وقواه الحية لمجابهة المخطط الغربي – الصهيوني، وبناء مستقبل حر طبيعي يكتبه أبناء المنطقة بدمائهم اليوم، وبعلمهم وعملهم في غد ليس ببعيد.

/انتهى/ 

الأكثر قراءة الأخبار الشرق الأوسط
أهم الأخبار الشرق الأوسط
عناوين مختارة