مسجد "جوهر شاد" في مشهد المقدسة.. ستة قرون من التاريخ العريق + صور


محافظة خراسان رضوي اكتسبت قدسيتها من ثامن أئمة الشيعة علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فهي تتحضن جثمانه الطاهر، وضريحه محفوف من كل نواحيه ببقاع دينية مباركة من جملتها مسجد له روحانية خاصة باسم مسجد "جوهر شاد" وهذا الاسم لسيدة صالحة أدرج اسمها في قائمة النسوة الصالحات في تأريخ البشرية.

مدينة مشهد المقدسة هي مركز محافظة خراسان رضوي، وعند ذكر اسمها يتداعي للسامع ضريح ثامن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وهذا الضريح المبارك محفوف من جميع أطرافه ببقاع ومراكز دينية مباركة ومن جملتها مسجد يدرج ضمن أكثر المساجد قدسية في الجمهورية الإسلامية، وهو مسجد "جوهر شاد".

تأريخ مسجد "جوهر شاد"

مؤسس هذه المسجد المقدس سيدة صالحة باسم "جوهر شاد آغا" زوجة الأمير شاهرخ ابن الأمير المغولي تيمور جوركاني المعروف باسم "تيمور لنك"، وهذه السيدة الجليلة عرفت آنذاك بالإحسان والخير وحب الثقافة والفن؛ والجدير بالذكر هنا أنّ ولدها الأمير "بايسنقر ميرزا" الذي تولى مقاليد الحكم فيما بعد قد حذا حذوها وتحلى بأخلاقها، إضافة إلى ذلك فقد أبدع في فن الخط الجميل ولا سيما خط الثلث.

بعد وفاة زوجها الأمير شاهرخ، حدثت خلافات في داخل البلاط الحاكم فتم اغتيالها في سنة 861 هـ لكنها خلفت آثاراً دينية وأعمالاً صالحة بقيت منقوشة في أنصع صفحات التأريخ بحروف من ذهب.

الفن المعماري لمسجد "جوهر شاد"

تم تشييد هذا المسجد التراثي المقدس في سنة 821 هـ بأمر من السيدة الصالحة "جوهر شاد آغا" بيد معمار بارع اسمه "قوام الدين زين الدين شيرازي طيان" وطوال تأريخه تمّت صيانته وترميمه مراراً، ولكن أكثر هذه الأعمال الترميمية سعة وتطويراً كانت في سنة 1087 هـ في عهد الملك سليمان الصفوي، لذلك نجد اليوم فيه العديد من المنقوشات الحجرية الجميلة للخطاط الشهير في العهد الصفوي الفنان "محمّد رضا إمامي".

في العهد البهلوي وفي عام 1962 م بالتحديد تمّ ترميمه مرة أخرى حيث هدمت قبته الكبيرة التي يبلغ ارتفاعها 41 م عن سطح الأرضية وبنيت قبة جديدة بدلاً عنها.

مكونات المسجد

يتكون مسجد "جوهر شاد" من باحة كبيرة وأربعة إيوانات وسبعة أروقة واثنتين وعشرين غرفة وثمان وعشرين مدخلاً، ويرتبط بالضريح الرضوي المقدس بواسطة مدخل الإيوان الشمالي.

الإيوان الجنوبي

الإيوان الجنوبي يعد أكبر إيوان في المسجد حيث تعلوه قبة ومنارتان يبلغ ارتفاع كل واحدة منهما 43 م، وفيه صغير يسمى "إيوان مقصورة " مزين بزخارف ونقوش الفسيفساء الرائعة، وجدرانه الخارجية مزينة بمخطوطات حجرية دونها الأمير بايسنقر ميرزا ابن السيدة جوهر شاد آغا، ونظراً لروعتها وجمالها فهي تدرج ضمن أرقى الآثار الفنية الموروثة من العصر التيموري.

في نهاية هذا الإيوان وعلى مقربة من المحراب يوجد منبر خشبي منقوش بنقوش ظريفة ورائعة للغاية ويطلق عليه اسم "منبر صاحب الزماني" حيث يتكون من أربعة عشر مدرجاً وهو مصنوع من خشب أشجار الكمثرى والجوز، والملفت للنظر فيه أنه خشبي بالكامل بحيث لم يستخدم فيه مسمار أو أية قطعة معدنية أخرى، وقد صنع في عام 1242 هـ بيد النجار الفنان الأستاذ "محمّد نجار خراساني".

حوض "درد سر ساز"

يتوسط مسجد "جوهر شاد" حوض في غاية الجمال يشابه المصلى في تصميمه، فهو مفتوح من أحدى جهاته ويطلق عليه اسم "مسجد بير زن" أي مسجد العجوز، ووجه التسمية هو أنّه في قديم الزمان وحين تشييد المسجد كان داراً لسيدة عجوز وربما كانت أرملة كما يقال لكنها رفضت بيعه للسيدة "جوهر شاد آغا" لأنها أرادت أن تجعله وقفاً للمسجد، لذلك أصبح مكانه مثاراً للجدل، ففي عام 1947 م تم بناء حوض في وسط المسجد في موضع هذا الدار بالتحديد، لكن البعض اعترضوا على ذلك بداعي أنه وقف للمسجد وجزء منه ولا يجوز بناء حوض في داخل المسجد المخصص للصلاة لكن المسؤولين أكملوا المشروع وتمّ تشييد الحوض، وبعد 42 عاماً من ذلك التأريخ أي في عام 1989 م بالتحديد ألغي الحوض وألحقت أرضيته بأرضية المسجد لكن مع ذلك اعترض البعض على هذا الإجراء، وبالفعل فقد نجحت اعتراضاتهم وأعيد بناؤه كحوض مرة أخرى.

الأحداث الدامية في مسجد "جوهر شاد"

يبلغ عمر مسجد "جوهر شاد" ستة قرون وطوال هذه الفترة شهد الكثير من الأحداث أهمها وأكثرها دموية ومأساوية حدث في عهد الملك الجائر رضا شاه بهلوي الذي حاول تغيير هوية الشعب الإيراني الدينية واستبدال نمط الثياب الإسلامي بنمط غربي بداعي التجدد والحداثة.

لذلك صادق البرلمان على مقترح له في وجوب تغيير الرجال أزيائهم المحلية واستبدالها بالزي الغربي، لكن هذا القرار بطبيعة الحال لا يعد يسيراً في المناطق الدينية ومن جملتها مدينة مشهد المقدسة، لذلك اعترض عليه السكنة المحليون وعلماء الدين بالتحديد، لذلك بعثوا رجل دين اسمه " حسين آقا" إلى العاصمة طهران لمقابلة رضا شاه بهلوي والتحاور معه حول الموضوع بغية إقناعه في تغيير رأيه.

ولكنه قبل أن يصل إلى القصر الملكي تم اعتقاله في مدينة "ري" ومن ثم نفي من طهران، ولما سمع أهالي مشهد هذا الخبر ثارت حفيظتهم فاجتمعوا معترضين في مسجد "جوهر شاد" يهتفون بشعارات مناهضة للحكومة وللملك الجائر وذلك في يوم الجمعة الموافق 21 تموز / يوليو عام 1935 م الأمر الذي أسفر عن دخول قوات عسكرية مدججة بالسلاح إلى المسجد لقمع هذا الاعتصام، وبعد صراع دام انتهت الحادثة بسقوط مئة معتصم بين قتيل وجريح وإصابة ثلاثة من رجال الشرطة، وبعد مدة بادرت الحكومة إلى إعدام "محمّد ولي أسدي" الذي كان نائباً لمدير العتبة الرضوية المقدسة لكونه نصح رضا شاه بهلوي بعدم السعي لتغيير نمط ثياب الشعب.

مسجد "جوهر شاد" مركز ديني ثقافي

من ميزات مسجد "گوهر شاد" أنه ليس كسائر المساجد التراثية المخصصة لأداء الصلوات اليومية فحسب، بل هو على مر العصور كان وما زال مركزاً دينياً وثقافياً منتعشاً ومركزاً يقدم خدمات لجميع أهالي مدينة مشهد، إذ هناك الكثير من الموقوفات المخصّصة له في شتى أرجاء المدينة وحتى في بعض نواحي منطقة خراسان، وبعضها كان قد وقف من السيدة الصالحة "گوهر شاد آغا" التي أمرت بتشييده، والأموال التي يتم استحصالها من هذه الموقوفات تسخر لصيانة وترميم المسجد وتوفير سائر نفقاته المالية.

ومن جملة المعالم الثقافية لهذا المسجد المبارك وأهمها، مكتبة تم تأسيسها في عام 1953 م حينما أهدى السيد سعيد الطباطبائي الأصفهاني للمسجد خمسة آلاف نسخة مخطوطة، وفيما بعد تمّ توسيع نطاقها من قبل دائرة الأوقاف في مدينة مشهد المقدسة، وهي تتكون اليوم من عدة مكتبات فرعية تخصصية، منها مكتبة الإمام الرضا (عليه السلام) التخصصية التي تشتمل على 2200 كتاب مطبوع و 110 كتاب مخطوط و تحتفظ بـ 13 مجلة تصدر من عدة مؤسسات ومراكز حيث تتمحور مواضيعها حول هذا الإمام المعصوم فقط، إضافة إلى الكثير من النسخ المصورة. ومن جملة موقوفات مسجد "گوهر شاد" معمل لصناعة الفسيفساء ذات الألوان الزاهية الجميلة.

/ انتهى/