وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن سحر كلام حافظ لم يقتصر على إيران الثقافية، بل امتدّ منذ قرون إلى البلدان المجاورة، حيث لامس أرواح العطاشى للكلمة العذبة وصقل النفوس، كما قال هو نفسه:
تتحطّم من حلاوة هذا السُّكّر الفارسي
كلُّ ببغاواتِ الهندِ إذ يسري إلى بنغاله
وأيضاً قوله:
لقد فتحتَ، يا حافظُ، بالعذب من شعركَ
عراقاً وفارسَ — فهلمَّ، هذا أوانُ بغدادَ وتبريزَ!
انتشار شعر حافظ في شبه القارة الهندية، رغم بُعد المسافة واختلاف اللغة في القرن الثامن الهجري، يدلّ على نفوذ شخصيته الأدبية وصيته العالمي منذ القدم. وتشير الدراسات إلى دلائل كثيرة على المكانة الرفيعة التي حظي بها حافظ بين حكّام شبه القارة، إذ دُعي من قبل بعضهم لزيارة بلدانهم.
من ناحية أخرى، كان شعر حافظ يحظى بتقدير خاص بين النخب الفكرية والأدبية في شبه القارة، حتى إنّ أول الشروح على ديوانه كُتبت في حياته على يد السيد علي الهمداني، أبرز الشخصيات العرفانية والثقافية في الهند آنذاك. وقد ساهم اهتمام الناس عامةً، ولا سيما المتصوفة، بشعر حافظ، في أن تحظى قصائده بمكانة مميزة بينهم. يشير الباحث أكبر ثبوت في إحدى دراساته إلى وجود «حافظي حافظ»، أي أشخاص كرّسوا حياتهم لحفظ ديوانه كاملاً عن ظهر قلب، وهو ما يؤكد صدق قول لسان الغيب حين قال:
«برقصٍ ونشوةٍ على شعر حافظ الشيرازي
يتغنّى السودُ العيونُ الكشميريونُ والأتراكُ السمرقنديون».

وبمناسبة يوم تكريم حافظ، أجرت وكالة تسنيم حواراً مع جهانغير إقبال، الباحث ومدير كلية اللغة والأدب الفارسي بجامعة كشمير في الهند، تحدّث فيه عن مكانة حافظ منذ الماضي وحتى اليوم، وعن أثره في ثقافة شبه القارة منذ حياته وحتى زمننا هذا الذي قلّ فيه من يفهم الفارسية أو يقرأها في الهند.
تسنيم: إنّ العلاقات الثقافية والأدبية بين إيران والهند قديمة الجذور، لكنها بلغت ذروتها في عهد المغول، حيث ازدهرت اللغة الفارسية، وهاجر كثير من الشعراء الإيرانيين إلى الهند، في ما يمكن أن نسمّيه اليوم «هجرة العقول». هذه الهجرات أثّرت في الشعراء الفرس كما في الأدب الهندي. من بين هؤلاء، يبرز اسم حافظ الشيرازي الذي تشير القرائن في شعره إلى أن شهرته وصلت الهند في حياته، كما يقول:
«تتحطّم من حلاوة هذا السُّكّر الفارسي كلُّ ببغاواتِ الهندِ».
فمتى عُرف شعر حافظ في شبه القارة، وكيف أثّر في شعرائها؟
جهانغير إقبال: عاش حافظ الشيرازي في القرن الرابع عشر الميلادي، وقد وصلت أعماله إلى الهند في ذلك العصر تقريباً. وتشير المصادر التاريخية إلى أن ديوانه كان واسع الانتشار في بلاط الملوك المغول، حتى إنّ أباطرة مثل همايون وجهانغير كانوا يقرؤونه للتفاؤل والفال. ويذكر أبو الفضل بي دين، مؤلف «أكبرنامه»، أن ديوان حافظ كان من الكتب الرئيسة التي تُقرأ في بلاط الملك أكبر.
الأب الروحي للغزل الأردي
هذا التعارف الطويل بين الهنود وحافظ جعل أسلوبه الشعري يترك أثراً عميقاً في شعراء شبه القارة الناطقين بالفارسية، خصوصاً في فن «الغزل» الذي بلغ ذروته في العصر المغولي متأثراً بشعر حافظ. ويُقال إن الغزل الأردي الذي حمل التراث الفارسي إلى أوج جديد، استمدّ الكثير من روح غزليات حافظ.
فالشعراء الكبار في الهند وباكستان على مدى قرون تأثروا بأسلوب حافظ ومضامينه الصوفية، فاستثمروا طاقات اللغة الفارسية في التعبير الأدبي بأقصى حدّ. ومنذ القرن الثامن الهجري حتى اليوم، ظلّ حافظ اسماً لامعاً في الأدب الفارسي الهندي ومكانته فيه لا تُنكر.
تسنيم: في إيران، شعر حافظ يحظى بمكانة قُدسية إلى جانب القرآن الكريم، فما مكانته في الثقافة الشعبية الهندية؟
يُنظر إلى ديوان حافظ في إيران بوصفه نصّاً مقدساً ذا قدسية أدبية وروحية، أما في الهند فمكانته ذات طابع ثقافي وأدبي أكثر منها ديني. فقد كان الإيرانيون والهنود المثقفون يعدّونه «تاجراً للقلوب» وشاعراً عالمياً.

من دفع العين إلى حلقات الصوفية
في شبه القارة، كان شعر حافظ محبوباً بين الأدباء والمتصوفة، حتى إنّ بعض الأماكن المقدسة والتمائم الهندية كانت تتضمّن أبياتاً من شعره لدفع العين وجلب البركة. كما قام عدد من العلماء والمترجمين الهنود، مثل الدكتور بالرام شوكلا (رئيس معهد سوامي فينواياكانند في طهران)، بترجمة أجزاء من ديوانه إلى اللغة الهندية ليطّلع الجيل الجديد على فكره.
ويشير الأستاذ محمد سعيد حسام بور إلى أن تأثير حافظ لم يقتصر على الأدب الهندي فحسب، بل شمل المجتمع واللغة والثقافة أيضاً. فطبقات شعره المتعددة أفسحت المجال للشعراء اللاحقين لاستثمار طاقات اللغة الفارسية في نظم أكثر عمقاً، وتمكّن حافظ – كما يقول – من «اكتشاف مركز الجاذبية الفكرية لأمة بأكملها» وتقديم شعر يجمع بين الصفوة والعامة، حتى إنّ الاحتفاظ بديوانه إلى جانب القرآن كان يُعدّ مفخرة.
وباختصار، فإنّ حافظ اليوم يحظى باحترام واسع في الأوساط الأدبية والجامعية الهندية، كما أنّ أصداء شعره ومضامينه لا تزال حاضرة في وجدان الأدباء ومحبي الثقافة من خلال الأناشيد والغزليات المستوحاة من شعره الفارسي.
تسنيم: كانت الفارسية لغة رسمية في الهند لنحو سبعة قرون، إلى أن استبدلتها بريطانيا بالإنجليزية في عهد تشارلز تري ويليان. هذا التحوّل لم يكن مجرد تغيير لغوي، بل جعل الهنود غرباء عن جزء كبير من تراثهم القديم. فهل انقطع ارتباطهم بحافظ بعد ذلك؟
مع تراجع الفارسية عن الحياة اليومية في الهند، أصبح حضور حافظ هناك ذا طابع أكاديمي وثقافي أكثر. فما زال ديوانه يُدرّس في بعض الجامعات ومعاهد تعليم الفارسية، مثل الدورات الصيفية في كلكتا حيث يُطلب من الطلاب حفظ بعض غزلياته.

حافظ في الذاكرة التاريخية للهنود
كما كان عدد من المفكرين والشعراء الهنود البارزين، مثل راج رام موهان روي (الناشط الاجتماعي في القرن التاسع عشر) وديبندراناث طاغور (الشاعر البنغالي)، من المعجبين بحافظ، بل إن والد طاغور كان يعدّه شاعره المفضّل.
وهذا دليل على أن حافظ لا يزال حاضراً في الذاكرة الثقافية للهند، وإن كان التعرف إليه اليوم يتمّ أساساً من خلال الترجمات إلى اللغتين الهندية والأردية، كما يرى الدكتور شوكلا الذي يؤكد ضرورة ترجمة هذا الكنز الأدبي إلى اللغات المحلية كي تتعرّف عليه الأجيال الجديدة.
كما يظهر التأثير غير المباشر لحافظ في الأدب الحديث الأردي والهندي، حيث سار شعراء الغزل المعاصرون على نهج صائب التبريزي وطريقة حافظ في الرؤية والتعبير، فأسهموا في صياغة جزء من المشهد الشعري الراهن في الهند.
وبوجه عام، وإن لم يعد القارئ الهندي العادي يفهم الفارسية أو يقرأ شعر حافظ بلغته الأصلية، فإن إرثه ما زال حاضراً في الجامعات والأوساط الأكاديمية، ومن خلال الترجمات والبحوث التي تبقيه حيّاً في الوجدان الثقافي الهندي.
/انتهى/