.
كان المشهد أقرب إلى المعجزة؛ شابٌ في الحادية والعشرين من عمره، نجا من الموت بأعجوبة، ليخرج اليوم من بين الجدران الحديدية حيًّا، وإن ظل الألم رفيقه الدائم.

يقول نذير لوكالة تسنيم الدولية للأنباء بصوتٍ تغلب عليه الدهشة: كنت أحلم باليوم اللي أرجع فيه لأمي… كنت أظن أني سأخرج عام 2042، لكن الله كتب لي عمرًا جديدًا، والحمد لله على قدره.

في بيت العائلة الذي غاب عنه طويلاً، امتزجت الدموع بالضحكات. والدته احتضنته بشوقٍ يشبه حنين العمر كله، بينما وقفت شقيقته تراقبه بصمتٍ مفعم بالدموع. تقول والدته لـ تسنيم: لما بلغونا إنه نذير بالصفقة، قلبي طار من الفرح… بعد سنين وجع وانتظار، شفته قدامي، سالم ولو محمول على الألم، بس سالم… أحمد ربي كل لحظة على رجعته.
نذير، الذي اعتُقل في 8 أيار/مايو 2022، أصيب أثناء عملية اعتقاله برصاصٍ كثيفٍ أطلقه جنود الاحتلال، فاستقرت 25 رصاصة في جسده، معظمها في الأمعاء والبطن والقولون والظهر. ظلّ بين الحياة والموت لأسابيع طويلة، وخضع لعمليات جراحية متكررة لإنقاذ حياته.

وبحسب تقرير هيئة شؤون الأسرى والمحررين، لا يزال الأسير يعاني من رصاصتين مستقرتين في ظهره تضغطان على العمود الفقري، مسببتتين له آلامًا حادّة تمنعه أحيانًا من الوقوف والمشي إلا بعد تلقيه إبرة مخصّصة لتخفيف الألم.
الهيئة، في تقريرها الصادر يوم الثلاثاء بعد زيارة محاميها يوسف متيا لسجن عوفر، أكدت أنّ الأسير دار أحمد كان يعاني من آلام حادة في المعدة والظهر وصعوبة في النوم بسبب الأوجاع المنتشرة في أنحاء جسده كافة، في حين اكتفت إدارة السجن بإعطائه مسكنات مؤقتة، متجاهلة حاجته إلى علاجٍ حقيقيٍّ ومتابعة طبية عاجلة.

ورغم خطورة حالته، لم يُنقل نذير إلى المستشفى منذ آذار/مارس 2023، وفق ما أكده محامي الهيئة، وهو ما اعتبرته الأخيرة نموذجًا واضحًا لسياسة الإهمال الطبي المتعمّد التي تمارسها سلطات الاحتلال بحق مئات الأسرى المرضى.
اليوم، بعد أن نال حريته ضمن صفقة "طوفان الأحرار" التي شملت نحو 150 أسيرًا فلسطينيًا، بينهم عدد من الجرحى والمصابين، يحاول نذير استعادة ما تبقّى من حياته الطبيعية.
يجلس في فناء بيته، يضحك مع الأطفال ويحاول المشي رغم الألم، كمن يتعلم من جديد كيف يعيش خارج جدران السجن.
ويقول: كل رصاصة كانت تجربة. ما قتلتني، لكنها علمتني معنى الحياة… الحرية وجع، بس وجعها حلو بعد القيود. يقولها بابتسامةٍ هادئة بينما يلمس ندوب جسده.
تصف هيئة شؤون الأسرى حالته بأنها واحدة من أصعب الحالات التي واجهها أطباء السجون في السنوات الأخيرة، مؤكدة أنّ الاحتلال يتعمّد ترك المصابين من الأسرى في ظروف صحية قاسية دون متابعة أو علاج كافٍ، في انتهاكٍ صارخ للقانون الدولي الإنساني.

بحسب الإحصائيات الأخيرة، هناك أكثر من 600 أسير فلسطيني يعانون أمراضًا مزمنة داخل سجون الاحتلال، من بينهم 200 أسير بحاجة إلى عمليات جراحية عاجلة، بينما تتواصل سياسات التعذيب والإهمال الطبي كجزءٍ من أدوات الضغط والعقاب الجماعي.
لكن نذير، الذي خرج من بين الرصاصات حيًّا ومن السجون أكثر قوة، يرى أن الحياة ما زالت تستحقّ المقاومة.
ويضيف خلال حديثه مع تسنيم: كل اللي جوّه قلبي معهم… الحرية ناقصة طول ما في أسير بعده ورا القضبان. بس راح ييجي اليوم اللي نفرح كلنا فيه، يوم الحرية الكاملة.
في آخر النهار، وقف نذير على سطح منزله يطالع قريته بهدوءٍ وسكون، بينما تغيب الشمس عن التلال المحيطة. كان المشهد كأنه وعدٌ جديد بأن الألم لا يمكن أن يغلب الأمل، وأن الجسد الجريح قادر أن ينهض كل مرة من بين الركام.
/انتهى/