وكالة تسنيم الدولية للانباء : جاء قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلغاء اتفاقية التخلص من البلوتونيوم مع أمريكا، ليعكس تحولاً استراتيجياً عميقاً في العلاقات الدولية، ويشكل عودة للعالم إلى منطق الردع المتبادل. هذا الإجراء، الذي يرمز إلى انهيار الثقة المتبادلة بين موسكو وواشنطن، يأتي في وقت يسير تاريخ مراقبة الأسلحة النووية العالمية في مسار ملبد بالتوتر، وتتصاعد فيه مرة أخرى المنافسة التكنولوجية والعسكرية بين القوى العظمى.
اتفاقية التخلص من البلوتونيوم، التي وُقعت أولاً عام 2000 بين روسيا وأمريكا وتعديلها في 2010، أكدت التزام البلدين بتخفيض مخزونهما من بلوتونيوم حقبة الحرب الباردة بمقدار 34 طناً والاستخدام السلمي له. وفقاً لتقديرات المسؤولين الأمريكيين، كان من شأن هذا الاتفاق إزالة المواد اللازمة لإنتاج ما يقارب 17000 سلاح نووي من دائرة التصنيع. ومع ذلك، أظهرت التجربة التاريخية للعقود الماضية أن الثقة في الأحادية الأمريكية والتنفيذ غير المشروط للالتزامات الدولية، كانت دائماً محفوفة بالمخاطر.
انهيار الثقة وعدم الوفاء الأمريكي .. خلفية القرار الروسي
في العقدين الماضيين، انسحبت أمريكا مراراً من معاهدات استراتيجية أو أوقفت التنفيذ الكامل لالتزاماتها في مجالات مختلفة. ومن أبرز الأمثلة: الانسحاب من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) عام 2019، الذي عطّل فعلياً التوازن التسليحي في أوروبا وروسيا، والانسحاب من معاهدة الحد من أنظمة الصواريخ البالستية (ABM) عام 2002، الذي تحدى مفهوماً مشابهاً للتهديد المتبادل، وإلغاء أو تقييد الاتفاقيات النووية مع إيران (البرنامج النووي الإيراني 2018)، مما أظهر أن تنفيذ التزامات أمريكا يخضع إلى حد كبير للمصالح السياسية الداخلية لهذا البلد.
من وجهة نظر موسكو، تُعد هذه الأنماط السلوكية دليلاً على الأحادية وعدم الوفاء الهيكلي للغرب، مما دفع روسيا إلى اتخاذ قرار بعدم الاعتماد بعد الآن على الثقة الأحادية بأمريكا، بالنظر إلى أمنها القومي بمنظور واقعي.
من الجدير بالذكر أن روسيا قد علقت مشاركتها في اتفاقية البلوتونيوم سابقاً في عام 2016؛ لكن القرار الأخير يمثل الإلغاء الرسمي للاتفاقية ويرسل رسالة استراتيجية واضحة إلى الغرب: لقد انتهى عصر الثقة الأحادية، ولا بد من تأمين الأمن القومي من خلال مسار القوة الردعية.
العودة إلى منطق الردع المتبادل
يقوم الردع المتبادل (Mutual Assured Deterrence أو MAD) على فرضية مفادها أنه لا توجد قوة تستطيع القيام بعمل عسكري نووي ضد منافسها دون مخاطرة وتكاليف باهظة؛ لأن الرد المتبادل مضمون. أدركت روسيا، بعد مراقبة السياسات الأحادية لأمريكا، أن الاعتماد فقط على الاتفاقيات الدولية لا يمكنه ضمان الأمن، وأنه من الضروري الحفاظ على توازن القوى من خلال تعزيز القدرة الردعية.
في العصر الجديد، لم يعد الردع مقتصراً على المخزونات النووية؛ بل يشمل التكنولوجيات المتقدمة وأنظمة الصواريخ الجديدة. تسعى روسيا، من خلال تطوير برامج مثل: Avangard (صاروخ فوق صوتي عالي المناورة)، وSarmat (صاروخ باليستي عابر للقارات)، وPoseidon (مركبة بحرية نووية ذات مدى وقدرة تدمير عالية)، وKinzhal (صاروخ كروز فوق صوتي)، إلى إرسال رسالة واضحة إلى المنافسين الغربيين. فالردع يضمن فقط من خلال مسار القوة الحقيقية والتكنولوجية، ويعتبر توسع حلف الناتو ونشر أنظمة الدفاع الصاروخي في أوروبا وأمريكا والمناطق الآسيوية، تهديداً مباشراً لروسيا.
من هذا المنظور، يمثل إلغاء اتفاقية البلوتونيوم رمزاً لعودة روسيا إلى منطق القوة المتبادلة في مواجهة التكنولوجيات الحديثة للغرب، ويظهر أن موسكو مستعدة للرد في المجالات التسليحية الجديدة.
فشل نظام مراقبة التسليح وبدء السباق التكنولوجي
إلغاء اتفاقية البلوتونيوم ليس مجرد إجراء ثنائي؛ بل هو مؤشر على إضعاف نظام مراقبة الأسلحة العالمية. لقد فقدت معاهدات عديدة مثل: INF وABM وNew START، التي كانت يوماً ما دعامات الثقة العالمية، وظيفتها في العقود الأخيرة. سعت أمريكا، مستفيدة من هذا الفراغ، إلى تعزيز تفوقها التكنولوجي والعسكري ووضع روسيا في موقف رد الفعل.
في الظروف الراهنة، لم تعد المنافسة النووية تقتصر على القنابل والصواريخ؛ بل تشمل تطوير تكنولوجيات جديدة، والذكاء الاصطناعي العسكري، والأنظمة الفضائية، والطاقة النووية المتقدمة. يمثل هذا السباق التكنولوجي استمراراً لمنافسة الردع، ولكن بنطاق وتعقيد أكبر، ويظهر أن العالم يدخل مرحلة لم يعد فيها السيطرة الأحادية أو الثقة المتبادلة البسيطة مجدية.
التبعات الجيوسياسية والأمنية
عزز قرار روسيا إلغاء اتفاقية البلوتونيوم مسيرة تعدد الأقطاب في الردع النووي. فالقوى المستقلة مثل الصين والهند وحتى كوريا الشمالية، تشكل هندسة الردع الخاصة بها. يظهر هذا أن النظام الذي تهيمن عليه أمريكا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ينهار، وأن العالم يتجه نحو "الردع متعدد الأقطاب".
التبعات على المناطق الحساسة:
أوروبا: عودة ظل التهديد النووي، وزيادة الحاجة إلى الدفاع واستراتيجية الردع المستقلة.
آسيا: تعزيز مكانة الصين وروسيا، وتكثيف المنافسة التكنولوجية مع أمريكا وحلفائها الإقليميين.
غرب آسيا: عظة للدول التي وثقت بوعود الغرب؛ تظهر أن الأمن القومي يجب أن يُؤسس على القدرات الذاتية والردع المستقل.
خلاصة
باختصار، وبالنظر إلى البيانات التي تم فحصها، يمكن الادعاء أن إلغاء اتفاقية البلوتونيوم، وإن بدا قراراً تقنياً حول إدارة المواد النووية، إلا أنه في الواقع رمز لتحولات هيكلية في النظام الدولي وعودة العالم إلى منطق الردع المتبادل. لقد انتهت الثقة الأحادية بأمريكا. وأُحيي السباق التسليحي وتكنولوجيات النووية الجديدة. وحل الردع متعدد الأقطاب محل النظام الذي تهيمن عليه أمريكا.
في العقود القادمة، سيواجه العالم عصراً جديداً من المنافسة النووية والاستراتيجية، حيث لا تستطيع أي قوة القيام بعمل عسكري دون رد متبادل وتكاليف باهظة. تحمل عودة روسيا إلى منطق الردع رسالة واضحة للغرب والقوى الأخرى: إن الأمن وتوازن القوى يضمنان فقط من خلال مسار القوة الحقيقية والتكنولوجيات المتقدمة، وليس من خلال الوعود الأحادية أو الاتفاقيات السياسية قصيرة المدى.
/انتهى/