نيويورك تُصوّت لفلسطين: زهران ممداني يهزّ اميركا ويهزم إرث ترامب

خاص تسنيم/ أمل شبيب

كتب زهران ممداني، الشاب المسلم التقدمي، فصلاً جديداً في تاريخ السياسة الأميركية بعد فوزه بمنصب رئيس بلدية نيويورك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، في انتخابات وُصفت بأنها الأشد زخماً وإثارة في تاريخ المدينة الحديث. لم يكن هذا الفوز مجرد انتقال للسلطة المحلية، بل تحوّل رمزي يعيد تشكيل صورة أميركا أمام العالم، ويضع القضية الفلسطينية في مركز خطاب سياسي غير مسبوق داخل أكبر مدينة أميركية.

منذ لحظة إعلان النتائج، ترددت في الأوساط السياسية والصحفية عبارة واحدة:

"فوز ممداني هو فوز فلسطين في نيويورك".

فقد تحوّل هذا السياسي الشاب، الذي جمع بين الهوية المهاجرة والالتزام الأخلاقي، إلى رمزٍ عالمي للعدالة الاجتماعية وصوت جريء في مواجهة الخطاب المحافظ واليميني الذي مثّله دونالد ترامب لسنوات.

 

من كمبالا إلى نيويورك: رحلة المهاجر الذي حمل العدالة في قلبه

ولد زهران ممداني في كمبالا، عاصمة أوغندا، لعائلة هندية الأصل هاجرت في منتصف التسعينات إلى الولايات المتحدة. كانت طفولته رحلة تنقّل بين ثقافات متداخلة، أكسبته رؤية عالمية مبكرة للعدالة والمساواة. درس في كلية بودوين وتخصص في الدراسات الإفريقية والسياسة العالمية، وهناك بدأ نشاطه السياسي مبكراً من خلال مبادرات شبابية تدعو إلى العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمهاجرين.

لاحقاً، ومع انتقاله إلى نيويورك، انخرط في العمل المجتمعي على نطاق واسع، فأسّس حملات لدعم اللاجئين، ومبادرات ضد التمييز في الإسكان والتعليم، ما جعله من أبرز وجوه اليسار التقدمي في المدينة.

عام 2020، انتُخب عضوًا في مجلس ولاية نيويورك، حيث اشتهر بخطابه الصريح في دعم فلسطين ومعارضته للمساعدات العسكرية الأميركية للكيان الإسرائيلي. كانت تلك المواقف الجريئة بمثابة إعلان مبكر عن ميلاد نجم سياسي جديد في المشهد الأميركي.

 

حملة انتخابية غير تقليدية: عندما أصبحت فلسطين جزءًا من الخطاب المحلي

في حملته الانتخابية لرئاسة بلدية نيويورك، لم يتردد ممداني في إدخال القضايا الدولية إلى صلب النقاش المحلي. رفع شعار "العدالة لا تتجزأ"، مؤكدًا أن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين جزء من الدفاع عن العدالة في الأحياء الفقيرة بالمدينة. هذا الربط بين المحلي والعالمي منحه مصداقية فريدة بين الجاليات العربية والإفريقية والإسلامية، وكذلك بين الشباب التقدميين الذين سئموا من السياسة التقليدية.

في مناظراته الانتخابية، كان ممداني الصوت الوحيد الذي تحدث بوضوح عن فلسطين، رافضًا ما وصفه بـ"نفاق النخبة السياسية" التي تتحدث عن حقوق الإنسان في كل مكان باستثناء فلسطين. وقد لاقى هذا الموقف دعماً شعبياً واسعاً، خاصة في بروكلين وكوينز وبرونكس، حيث الجاليات التي تشعر أن العدالة بعيدة المنال.

تصعيد ترامب وتحذيرات التمويل الفيدرالي

لم يتأخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مهاجمة زهران ممداني خلال الحملة الانتخابية، فقد وصفه علنًا بأنه "شيوعي خطر" و"عدو لإسرائيل"، محذرًا سكان نيويورك من انتخابه. وفي سلسلة منشورات عبر منصاته، قال ترامب إن فوز ممداني "سيجعل من الصعب عليّ دعم نيويورك بالأموال الفيدرالية"، مهددًا بقطع التمويل عن المدينة في حال توليه المنصب. كما هاجم الناخبين اليهود الذين دعموا المرشح الشاب وكتب: "أي يهودي يصوت لزهران ممداني، هذا الكاره لليهود، فهو شخص غبي". هذه التصريحات النارية اعتُبرت من قبل المراقبين محاولة واضحة لحشد القاعدة اليمينية المحافظة، لكنها جاءت بنتائج عكسية، إذ زادت من التفاف الشباب والأقليات حول ممداني الذي ردّ قائلاً: "المدينة التي جاءت منها سياسات الكراهية هي نفسها التي ستُسقطها، ونيويورك ستبقى نورًا في زمن الظلام السياسي". لقد حوّل ترامب المواجهة إلى معركة هوية، لكن النتيجة كشفت عن تحوّل عميق في المزاج السياسي الأميركي، حيث أصبحت نيويورك عنوانًا لعصر جديد من التحدي في وجه الخطاب الشعبوي والانقسام العنصري.

 

نيويورك تختار التغيير: فوز غير مسبوق في مدينة الانقسام

حصل ممداني على أكثر من 50.4% من الأصوات، متفوقًا على منافسيه من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، في نتيجة وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها "زلزال انتخابي".

فوز ممداني يعني أن مدينة كانت لعقود رمزًا للمال والنفوذ والعلاقات التقليدية، قررت أن تمنح ثقتها لشاب مسلم، من أصول مهاجرة، يرفع شعارات العدالة والمساواة وينتقد الكيان الإسرائيلي علناً.

في خطاب النصر، الذي ألقاه أمام آلاف من أنصاره في ساحة "تايمز سكوير"، قال ممداني:

"إذا كان هناك من يستطيع أن يُظهر لأمّةٍ خانها دونالد ترامب طريقة هزيمته، فهي المدينة التي أوصلته إلى ما هو عليه."

ثم أضاف جملته التي أصبحت شعار المرحلة:

"نيويورك ستكون النور في هذا الوقت من الظلام السياسي."

كانت تلك الكلمات كفيلة بتأجيج روحٍ جديدة في المدينة. مدينة ترامب السابقة، كما وصفها البعض، أصبحت الآن بقيادة مناهضة له ولخطابه الإقصائي.

 

الوقوف في وجه ترامب: مواجهة رمزية تهزّ المؤسسة السياسية

يُنظر إلى ممداني اليوم كأول سياسي في نيويورك يتحدّى دونالد ترامب بهذه الجرأة منذ سنوات. وعندما خاطبه بكلماته الشهيرة – "العدالة أقوى منك" – كان يُدرك أنه يرسل رسالةً أبعد من المنافسة الشخصية. لقد كان يتحدث باسم طبقات اجتماعية ومجتمعات عرقية همّشها النظام السياسي لعقود.

تصريحه بأن "المدينة التي صنعت ترامب ستكون المدينة التي تهزمه" لاقى تفاعلاً واسعاً في الإعلام الدولي، واعتُبر إعلاناً لولادة مرحلة جديدة في الخطاب الأميركي.

فالمعركة بين ممداني وترامب لم تكن مجرد صراع شخصي، بل مواجهة بين قوتين متعارضتين: الشعبوية اليمينية مقابل العدالة التقدمية.

 

 

فلسطين في قلب نيويورك: من التضامن إلى المنصة السياسية

منذ حملته الأولى، كان ممداني واضحاً في مواقفه. لم يكتفِ بالتعاطف اللفظي مع الفلسطينيين، بل دعا إلى مراجعة الدعم الأميركي غير المشروط للكيان الإسرائيلي، وانتقد علنًا جرائم الاحتلال في غزة والضفة الغربية. خلال العدوان الإسرائيلي عام 2024، نظّم تجمعات تضامنية ضخمة في نيويورك، وجعل بلدية المدينة – ولأول مرة – تُصدر بياناً يدعو إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين.

 يُعتبر فوز ممداني أول اختراق فعليٍ داخل النخبة السياسية الأميركية لصالح فلسطين. فالسياسيون الأميركيون كانوا يتجنبون ذكر فلسطين إلا بحذر، لكن ممداني كسر هذه القاعدة، ليجعلها جزءًا من الخطاب التقدمي المعاصر في الولايات المتحدة.

العديد من المحللين يرون أن هذا الانتصار قد يفتح الباب أمام جيل جديد من السياسيين الأميركيين الذين يتبنون مواقف أكثر توازنًا في الشرق الأوسط.

 

الأجندة السياسية: عدالة اجتماعية وإنسانية عابرة للحدود

يرتكز برنامج زهران ممداني البلدي على خمسة محاور مركزية تهدف إلى إحداث تغيير عميق في مدينة نيويورك. المحور الأول يركز على العدالة الاجتماعية والاقتصادية، من خلال تحسين الخدمات العامة ورفع الأجور ومحاربة التفاوت الطبقي بين أحياء المدينة، ما يعكس التزامه بتحقيق توازن اقتصادي واجتماعي شامل.

أما المحور الثاني فهو تمكين الأقليات والمهاجرين، حيث يسعى لتعزيز تمثيل الجاليات العربية والأفريقية والآسيوية في مؤسسات القرار المحلي، لضمان مشاركة عادلة وفاعلة في صنع السياسات.

 المحور الثالث يشمل الإسكان والنقل، مع وضع خطط طويلة الأمد لحل أزمة السكن وتحسين النقل العام بما يلبي احتياجات السكان اليومية ويخفف الضغط على المدينة.

 ويأتي المحور الرابع ليعكس التزامه بالاستدامة البيئية، من خلال تحويل نيويورك إلى مدينة خضراء بحلول عام 2035 عبر الاستثمار في الطاقة النظيفة والمبادرات البيئية المبتكرة. أما المحور الخامس فيتعلق بالعدالة الدولية، حيث يربط سياسات المدينة بالقيم الأخلاقية ويدعم حقوق الإنسان عالمياً، ليجعل من نيويورك نموذجاً للمدن التي تجمع بين التنمية المحلية والمسؤولية العالمية. ويرى خبراء أن هذا البرنامج يجعل من نيويورك مختبرًا سياسياً للسياسات التقدمية، وقد تتحول المدينة إلى نموذج يُحتذى به داخل الولايات المتحدة وخارجها.

 

ردود الفعل الدولية: من تل أبيب إلى رام الله

جاءت ردود الفعل على فوز زهران ممداني حادة ومتناقضة، تعكس مدى الأهمية الرمزية والسياسية لهذا الانتصار. في رام الله وغزة، عبّر مسؤولون وناشطون فلسطينيون عن ترحيب واسع، مؤكدين أن فوزه يمثل "انتصاراً للعدالة وكرامة الشعوب"، ويعكس أمل الفلسطينيين في أن تجد قضاياهم صدى في قلب السياسة الأميركية. على النقيض، أبدت وسائل الإعلام الإسرائيلية قلقاً بالغاً، معتبرة أن فوز ممداني يشير إلى "تحول محتمل للمدن الكبرى الأميركية نحو مواقف أكثر انتقادًا لإسرائيل"، وأن ذلك قد يعزز الأصوات المطالبة بفرض قيود على الدعم العسكري الأميركي لـ"إسرائيل". أما على المستوى الدولي، فقد لقي فوزه إشادة من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، واعتُبر بمثابة "دليل على نضوج الديمقراطية الأميركية وقدرتها على تمكين القيادات المتنوعة والممثلة للمجتمعات المهمشة". وحتى داخل أروقة الحزب الديمقراطي، أثار فوزه نقاشًا داخليًا حادًا حول ضرورة تحديث الخطاب السياسي تجاه القضايا الدولية، وضرورة الاستماع إلى المزاج الشعبي المتعاطف مع الفلسطينيين، ما يجعل من فوزه علامة فارقة في السياسة الأميركية على أكثر من صعيد.

 

الظاهرة الممدانية: نحو جيل سياسي جديد

إذاً، أمام فوز زهران ممداني برزت اليوم الظاهرة الممدانية كموجة سياسية واجتماعية آخذة في التوسع داخل المدن الأميركية الكبرى، تجمع بين الشباب، المهاجرين، والأقليات، وتتبنى رؤية تقدمية تعتبر أن العدالة الاجتماعية لا يمكن فصلها عن العدالة العالمية. ويرى مراقبون أن فوز ممداني سيحفّز ظهور مرشحين من خلفيات مشابهة في مدن مثل شيكاغو، لوس أنجلوس، وديترويت.

فالظاهرة الممدانية ليست مجرد نجاح انتخابي، بل تحول ثقافي يعيد تعريف معنى "القيادة الأميركية"،  فهي تمثل الانتقال من نخبة بيضاء محافظة إلى تمثيل متنوع يعكس التركيبة الحقيقية للمجتمع الأميركي.

 

مستقبل نيويورك: مدينة تُعيد تعريف نفسها

منذ توليه المنصب، أعلن ممداني أن "نيويورك لن تكون فقط مركزًا مالياً، بل نموذجاً للعدالة".

تحت قيادته، بدأت المدينة في مراجعة سياسات الهجرة والإسكان والشرطة، مع التركيز على الحد من الفقر وتوسيع الخدمات الاجتماعية.

لكن التحديات تبقى كبيرة — فالضغوط من المؤسسات الاقتصادية والجماعات المحافظة في واشنطن قد تحاول تقييد مشروعه.

رغم ذلك، يرى المراقبون أن ممداني يمتلك رؤية إستراتيجية طويلة الأمد تجعل من نيويورك مختبرًا لتجربة سياسية جديدة تمزج بين اليسار الاجتماعي والعدالة العالمية.

 

فوز ممداني: نيويورك تهتف باسم فلسطين

لا يمكن قراءة فوز زهران ممداني بمعزل عن السياق العالمي المتغير. فالعالم يشهد تصاعدًا في الصراعات القيمية بين التمييز والعدالة، بين الإقصاء والاندماج، بين النفوذ والكرامة الإنسانية. وفي هذا السياق، جاء فوز ممداني كتجسيد عمليٍ لفكرة أن المدن يمكن أن تكون قلاعاً للحرية العالمية.

لقد أصبح ممداني صوتًا للفلسطينيين في قلب الولايات المتحدة، لا بصفته مسلماً فقط، بل بصفته إنساناً يرى أن الحرية لا تتجزأ.

وإذا كانت نيويورك هي المدينة التي صنعت ترامب، فهي الآن – كما قال ممداني – المدينة التي ستُظهر لأميركا طريق خلاصها.

فوز زهران ممداني لا يعيد رسم خريطة نيويورك فحسب، بل يفتح أمام العالم نموذجاً سياسياً جديداً: نموذج يربط المحلي بالعالمي، والعدالة الاجتماعية بالعدالة الإنسانية، ويُعيد تعريف معنى النصر في زمن يبحث فيه الناس عن أملٍ حقيقي وسط الفوضى.

وفي الختام، يمكن القول إن فوز ممداني هو فوز فلسطين، وفوز العدالة على القوة، وفوز الإنسانية على الانقسام.

نيويورك التي كانت رمزاً للسلطة والنفوذ أصبحت اليوم منارةً للعدالة والكرامة، يقف على رأسها شاب يؤمن بأن السياسة ليست طريقًا للسلطة، بل وسيلة لإنصاف الإنسان.

/إنتهى/