وكالة تسنيم الدولية للانباء :
نشرت مجلة "اإيكونوميست" تقريراً سلطت فيه الضوء على أزمة خفية في الأراضي المحتلة. وجاء في التقرير: "بعد عامين من الحرب في غزة واستعراض التفوق العسكري، تواجه إسرائيل الآن تكلفة أعلى من ساحة المعركة: انتشار الصدمات النفسية، والعصيان المدني، وتآكل ثقة الجمهور، وهجرة الأدمغة. بينما تؤكد حكومة نتنياهو على الانتصارات العسكرية، فإن المؤشرات الاجتماعية والإنسانية في انهيار".
جائزة نوبل التي ضاعت في ظل الحرب
في كيان صغير مثل إسرائيل، عادة ما يصبح الفوز بجائزة نوبل مناسبة للاحتفال. ولكن عندما فاز "جول موكر" بجائزة نوبل في الاقتصاد الشهر الماضي، تم تجاهل خبر فوزه تقريباً بين زحمة الأحداث اليومية؛ لأنه تزامن مع تحرير آخر الرهائن الأحياء من غزة ومفاوضات وقف إطلاق النار. علاوة على ذلك، فإن موكر من منتقدي الحكومة الإسرائيلية الحالية، وكان طبيعياً أن تتجاهله حكومة نتنياهو.
أساتذة الجامعة العبرية يقدمون سبباً آخر: فقد عاش موكر في الولايات المتحدة لأكثر من خمسة عقود. وهم يعتقدون أنه يمثل حقيقة أن العديد من النخب العلمية الإسرائيلية تجد فرصاً أفضل في الخارج. لقد أصبح "الخوف من هجرة الأدمغة" أحد أكبر هموم المجتمع العلمي الإسرائيلي.
حرب غزة: ضربة موجعة لصورة إسرائيل عالمياً ومحلياً
هجوم حماس في أكتوبر 2023 والعمليات الإسرائيلية الواسعة في غزة لم تغيرا فقط نظرة العالم إلى إسرائيل، بل غيّرت أيضاً مشاعر العديد من الإسرائيليين أنفسهم. رغم المكاسب الميدانية، يبدو المستقبل السياسي والأمني لإسرائيل أكثر غموضاً من أي وقت مضى.
وقف إطلاق النار في غزة هش ومؤقت. لا يلوح في الأفق أي ضوء لتسوية جديدة مع الفلسطينيين. الضغوط والوصم الدولي ضد إسرائيل في تزايد. الاستقطاب الداخلي بلغ أعلى مستوياته منذ عقود. في مثل هذه الأجواء، يرى العديد من الإسرائيليين - وخاصة النخب العلمية والتقنية والطبية - مستقبل إسرائيل قاتماً.
موجة هجرة غير مسبوقة: أدمغة تغادر ولا تعود
وفقاً للإحصاءات الرسمية، ظلت الهجرة من إسرائيل مستقرة تقريباً خلال العقد الماضي، عند حوالي 40 ألف شخص سنوياً. لكن في العامين الماضيين:
في عام 2023: ارتفعت الهجرة بنسبة 50% لتصل إلى 59,365 شخصاً.
في عام 2024: أول عام كامل لحرب غزة، قفز هذا الرقم إلى 82,774 مهاجراً.
تحليل الديموغرافيين يُظهر أن نسبة كبيرة من المهاجرين هم يهود قدموا إلى إسرائيل من روسيا وأوكرانيا خلال السنوات الثلاث الماضية. هذه المجموعة رأت في إسرائيل "ملاذاً مؤقتاً"، ومع اندلاع الحرب، غادروا إسرائيل مرة أخرى.
لكن الخبراء يحذرون من أن المشكلة الرئيسية شيء آخر: هجرة الشباب المتعلمين والأطباء والمتخصصين في التكنولوجيا.
يقول "دان بن دافيد"، الخبير الاقتصادي في جامعة تل أبيب: "التفوق التكنولوجي والاقتصادي لإسرائيل يرتكز على 3% فقط من السكان؛ أشخاص يمكنهم بسهولة العثور على عمل في الخارج."
شكل قطاع التكنولوجيا حوالي 59% من صادرات إسرائيل في عام 2024؛ وهو قطاع حساس ومتحرك يشكل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي.
الاضطراب الداخلي والانقسام الاجتماعي: من الخدمة الإلزامية إلى غضب العلمانيين
ازداد الاستقطاب الداخلي بشكل حاد في العامين الماضيين. العلمانيون والمتعلمون - الذين يشكلون الغالبية العظمى من النخب التكنولوجية والأكاديمية - يعارضون سياسات حكومة نتنياهو أكثر من غيرهم.
تم استدعاء أكثر من 300 ألف من قوات الاحتياط للخدمة في حرب غزة، وتقول الجيش إنه حتى في عام 2026، سيتعين على قوات الاحتياط البقاء في الخدمة شهرين إضافيين. بينما المجتمع الارثوذكسي المتشدد، الذي يشكل 14% من السكان وهو جزء مهم من ائتلاف نتنياهو، لا يزال معفياً من الخدمة العسكرية. هذا التمييز أثار غضب العديد من أفراد الطبقة الوسطى والأكاديميين.
يحذر الجنرال "بني بن أري" من أن الجيش يجب أن ينتبه إلى "إرهاق قوات الاحتياط" وتدمير حياتهم الأسرية والاقتصادية.
أزمة نفسية شاملة: الثمن الخفي للحرب
إلى جانب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، تواجه إسرائيل الآن ظاهرة أوسع: الصدمة والضرر النفسي على مستوى وطني.
أعلن الجيش أنه في عام 2024، انتحر 21 عسكرياً؛ وهو أعلى رقم منذ عام 2011.
يقول أطباء النفس إن الرقم الحقيقي للأزمة يتجاوز الجيش ويمكن ملاحظته في جميع أنحاء المجتمع.
خصصت الحكومة الإسرائيلية حتى الآن 1.9 مليار شيكل (550 مليون دولار) للصحة النفسية، لكن الخبراء يقولون إن هذا المبلغ لا يتناسب مع حجم الأزمة.
يقول "دورون سبتي"، الأخصائي الاجتماعي: "التركيز على الصدمة وانتحار العسكريين ليس كافياً؛ المجتمع الإسرائيلي على حافة أزمة نفسية واسعة."
ويحذر أحد أطباء النفس في الجيش: "ما سيبقى بعد نهاية هذه الحرب هو مجتمع يعاني من الصدمة."
مستقبل غامض رغم التفوق العسكري
بينما تتحدث الحكومة الإسرائيلية عن "النصر العسكري" و"الردع"، فإن المؤشرات الاجتماعية والنفسية والديموغرافية تُظهر مساراً مختلفاً. زيادة الهجرة، وإرهاق قوات الاحتياط، والانقسام الأيديولوجي، والضغوط الدولية، وأزمة الصحة النفسية، تقدم صورة لدولة تدفع ثمن "النصر الدموي" باستقرارها الداخلي.
يبدو أن إسرائيل اليوم تواجه أكثر من أي وقت مضى السؤال التالي:
إلى أي مدى يمكن للتفوق العسكري أن يحل محل الاستقرار الاجتماعي والسلامة "الوطنية" ؟
/انتهى/