قفزة تاريخية للصناعة الفضائية في ايران
- الأخبار تکنولوجیا الفضاء
- 2025/11/18 - 18:42
وفي المشهد الجيوسياسي المضطرب اليوم، لم تعد قوة الأمم محصورة بالحدود البرية أو القدرات الاقتصادية فحسب، بل باتت تُقاس بالسيطرة على الحد النهائي، أي الفضاء الخارجي. والصناعة الفضائية الإيرانية هي تجسيد لهذه الإرادة الوطنية لكسر طوق العقول والقيود والقفز من مرحلة الاكتفاء الذاتي إلى مرحلة الاقتدار التكنولوجي.
لقد كانت مجرد أحلام وأمنيات قبل أكثر من عقدين من الزمن، أما اليوم فقد أصبحت تلك الأحلام واقعاً ملموساً يؤثر في المعادلات الإقليمية والعالمية من خلال الأقمار الصناعية التشغيلية، الصواريخ الناقلة متعددة المهام واستهداف مدارات الارتفاعات العالية.
هذه المقدمة تمثل بوابة للدخول إلى تحليل معمق للمسار الذي سلكته إيران، والذي انتقلت فيه من مرحلة الأبحاث "الإثباتية" التي جسدها قمر "أميد"، إلى مرحلة التثبيت التقني وكسب القدرات المعلوماتية المتقدمة؛ إنها قصة صعود صناعة لم تكن فقط رمزاً للثقة بالنفس الهندسية، بل أيضاً إشارة واضحة إلى تغير طبيعة القوة في القرن الحادي والعشرين.
لم تعد الصناعة الفضائية الإيرانية مجرد أمنية، بل تحولت إلى واقع استراتيجي يؤثر بشكل متزامن في أبعاد الاقتدار والأمن والاقتصاد الوطني. وخلال عقدين من الزمن، قطعت هذه الصناعة مساراً ثورياً من تصنيع أقمار بحثية بسيطة إلى حقن أقمار صناعية ثقيلة ودقيقة في مدارات عالية.
نشأة الصناعة الفضائية وارتباطها بقطاع الدفاع
يرتبط تاريخ الصناعة الفضائية الإيرانية ارتباطاً لا ينفصم بتاريخ الدفاع الوطني. فجذور هذا المجال تعود في الواقع إلى ضرورة تطوير البنى التحتية الصاروخية والإلكترونية في أعقاب الحرب المفروضة في الثمانينات من القرن الماضي، وهي الضرورة التي تحولت لاحقاً إلى منصة لانتقال التكنولوجيا إلى مجال الفضاء؛ حيث كانت الحاجة إلى مراقبة المصادر والاتصالات والأرصاد الجوية من بين الدوافع الأولى.
وبعد إقرار البرلمان، تأسس المركز الوطني للاستشعار عن بعد عام (1991 ميلادي)، لكن المحطة المؤسساتية الفارقة تحققت مع تشكيل المجلس الأعلى للفضاء ثم تأسيس المنظمة الإيرانية للفضاء (ISA) في عامي (2003-2004 ميلادي). وقد تولت هذه المؤسسات مسؤولية الإدارة الشاملة، وضع السياسات، وتنظيم العلاقات بين مختلف الفاعلين لتحديد مسار موحد للتنمية.
الإطلاق الناجح لـ"أميد"(الأمل): بداية الطريق الفضائي الإيراني
شكل الإطلاق الناجح للقمر الصناعي البحثي "اميد" بواسطة الصاروخ الناقل المحلي "سفير" في عام (2008 ميلادي) نقطة تحول تقنية وإعلاناً رسمياً لدخول إيران عصر الفضاء. وقد مثل هذا الإنجاز إثباتاً للقدرة الفنية الإيرانية في إكمال الدورة الكاملة للتكنولوجيا الفضائية (التصميم، تصنيع القمر الصناعي، تصنيع الصاروخ الناقل، الإطلاق والتحكم في القمر الصناعي في المدار).
وأدخل هذا النجاح إيران رسمياً إلى نادي الدول القليلة المالكة لهذه القدرة الاستراتيجية. وبعد "اميد"، تم تعريف مشاريع عديدة في الجامعات الرئيسية بالبلاد كان ناتجها أقماراً صناعية مثل "بيام" (الرسالة)، "نويد" (البشرى)، "رصد" (المراقبة) و"ظفر" (النصر). وقد شكلت هذه الأقمار من الجيل الأول، رغم دقة التصوير المنخفضة نسبياً التي واجهتها، حجر الأساس لاختبار النظم الفرعية وترقية خبرات المتخصصين المحليين.
الانتقال إلى المرحلة التشغيلية وزيادة القدرة
انتقلت الصناعة الفضائية الإيرانية في السنوات الأخيرة من مرحلة البحث وإثبات التكنولوجيا إلى مرحلة التشغيل وزيادة القدرة على الحمل والدقة. وارتبط هذا التحول بالتركيز على الصواريخ الناقلة من الجيل الجديد وترقية قدرات البنى التحتية. ففي الفترة الأولى، كان الصاروخ "سفير" ذو القدرة المحدودة على حمل أحمال خفيفة جداً هو بطل الساحة.
لكن اليوم، مع تثبيت أداء الصواريخ الناقلة الأكثر قدرة مثل "سيمرغ" و"قاصد" و"قائم 100"، فإن القصة قد تغيرت تماماً. فقد أظهرت عمليات الإطلاق الناجحة لـ"سيمرغ" في السنوات الأخيرة القدرة على حقن 300 كيلوغرام من الحمولة في المدار، مما يمثل قفزة مضاعفة في القدرة على الحمل ويتيح إرسال عدة أقمار صناعية أو حمولات أثقل.
الأقمار من الجيل الجديد: عين إيران الحادة
يعد تقديم واستخدام الصواريخ الناقلة ذات الوقود الصلب مثل "قائم 100" -الذي أطلق بنجاح القمر الصناعي "ثريا" ووضعه في مدار يبلغ ارتفاعه 750 كيلومتراً في شهر (ديسمبر 2023)- تحولاً استراتيجياً. فوصول القمر إلى هذا الارتفاع يمثل رقماً قياسياً جديداً للإطلاقات المحلية، كما أن استخدام الوقود الصلب يعزز متطلبات السرعة في رد الفعل، التخفي والإطلاق من نقاط مختلفة في السيناريوهات الأمنية.
وفي الوقت نفسه، يشكل استهداف مدارات أعلى حيوية مثل المدار الجغرافي (36 ألف كيلومتر) مع الكشف عن وحدة الانتقال المداري "سامان 1" قدرة فنية نادرة. فهذه الوحدات تتيح توجيه الحمولة من المدارات المنخفضة إلى مدارات أعلى، وهي تمثل خطوة عملية لإيران نحو إكمال مسار الوصول إلى المدارات الجغرافية وتقديم خدمات الأقمار الصناعية الدائمة.
لم تعد الأقمار الصناعية من الجيل الجديد مجرد أدوات لاختبارات مدارية؛ بل تحولت إلى أدوات تشغيلية لجمع المعلومات. فقد رفعت أقمار مثل "نور 3" (الذي أطلق في شهر سبتمبر 2023 بواسطة الصاروخ الناقل "قاصد" بدقة تصوير تتراوح بين 2.5 إلى 10 أمتار، من قدرات المراقبة والاستخبارات الإيرانية بشكل ملحوظ.
وتطوّر الأقمار الصناعية القادمة مثل "بارس 2" ونماذج مطورة من "ظفر 2" بهدف تحقيق دقة أعلى. وهذه الصور تُستخدم في إدارة مصادر المياه، الزراعة، مراقبة البيئة، والأهم من ذلك، في جمع المعلومات الاستراتيجية العسكرية. ففي سيناريوهات مثل المواجهات الإقليمية، لم تعد القدرات الفضائية عنصراً تجمليا، بل أصبحت ركيزة أساسية في إدارة المعلومات والصمود الوطني.
تطوير البنى التحتية الأرضية
وقد رافق هذا التطور إنشاء بنى تحتية أرضية متنوعة. فبناء قاعدة تشابهار الفضائية، التي تشهد تقدماً مادياً كبيراً، وبفضل موقعها الجغرافي المناسب، تمثل أفضل نقطة للإطلاق، كما أن إكمالها يرفع من استقرارية عمليات الإطلاق في ظل ظروف التهديد.
بالإضافة إلى ذلك، يضمن تطوير مراكز التحكم الاستراتيجية للأقمار في مواقع مثل سلماس وتشناران الاتصال المستمر وقيادة الأقمار في جميع أنحاء البلاد. لقد تحول النظر إلى الفضاء من منظور اقتدار صرف إلى منظور اقتصادي-سياسي-اقتدار. وقد بدأ دخول القطاع الخاص إلى الصناعة الفضائية الإيرانية بهدف زيادة التنافسية وسرعة التصنيع.
دور القطاع الخاص والتعاون الدولي
فقد تم تصنيع أقمار مثل "كوثر" من قبل شركات خاصة، كما أن إطلاق أقمار صناعية مصنعة بالكامل من قبل القطاع الخاص يثبت القدرة المستقلة والاكتفاء التقني. والأهم من ذلك، تم تصميم مشروع "منظومة الشهيد سليماني"، وهي أول منظومة أقمار صناعية إيرانية للنطاق الضيق، لتقديم خدمات إنترنت الأشياء (IoT) ونقل البيانات في ظروف الأزمات.
وتشكل هذه القدرة طبقة أمنية حيوية لاستمرارية الاتصالات ومراقبة المعلومات في أوقات الهجمات أو الكوارث الطبيعية. ومع تثبيت القدرات الأولية، تتطلع الصناعة الفضائية الإيرانية الآن إلى تحقيق أهداف أكثر طموحاً وإلى تعاون دولي على مستوى متقدم. فقد دخلت إيران مجال الاستكشافات الفضائية (البيولوجيا الفضائية)، كما أن السعي لتطوير كبسولات متقدمة قابلة للتوجيه لنقل الكائنات الحية، يشير إلى استهداف إرسال رواد فضاء.
والأهم من ذلك، أدى الإعلان عن التعاون مع البرنامج الفضائي الصيني إلى إرسال حمولة بحثية إيرانية إلى القمر في العام الحالي. ويمثل هذا التعاون إنجازاً دبلوماسياً وعلمياً كبيراً، ويضع إيران في عداد الدول القليلة التي تمتلك access to مركبات استكشاف قمرية.
وتيرة متسارعة وأهداف مستقبلية
تظهر سلسلة الإطلاق الناجحة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك المهام المستقبلية التي تشمل الإطلاق الثلاثي للأقمار الصناعية "ظفر 2" و"بايا" والنموذج الثاني من "كوثر"، سرعة غير مسبوقة في هذه الصناعة. كما أن الكشف عن أقمار اتصالات عالية الارتفاع مثل "ناوك" ونشر أول قمر اتصالات في المدار، سيكملان أحجية الخدمات الفضائية الإيرانية.
في الخاتمة: من العزلة إلى نادي الفضاء
قطعت الصناعة الفضائية الإيرانية مساراً صعباً محفوفاً بالتحديات منذ مرحلة ما بعد الحرب المفروضة. فمن الاعتماد على توفير القطع والمعرفة التقنية إلى بلوغ مكانة مصنع ومالك لأقمار صناعية تشغيلية بدقة تصوير عالية وقدرة على حقن حمولات ثقيلة. لقد استطاعت هذه القفزات أن توسع العمق الاستراتيجي والاستخباراتي لإيران على الساحة الإقليمية، وأن تنقل مفهوم الردع من الأرض إلى الفضاء.
والآن، مع تثبيت البنى التحتية، دخول القطاع الخاص، واستهداف مدارات أعلى وحتى القمر، أصبحت إيران في عداد 10 إلى 11 دولة تملك دورة فضائية كاملة. ومع ذلك، فإن هذا الإنجاز ليس نقطة النهاية، فالهدف النهائي هو بلوغ المكانة الأولى عالمياً في هذه الصناعة الاستراتيجية. وهذا الطموح سيكون ضامناً لاستمرار الاستثمار في المعرفة والتكنولوجيا المتقدمة في السنوات القادمة.
/انتهى/