الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا: تجاهل نظام الجولاني وتكريس الوجود العسكري

وكالة تسنيم الدولية للانباء/ أمل شبيب - تشكّل الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا نموذجاً مركّباً للكيفية التي تتعامل بها "تل أبيب" مع تحولات المنطقة المعقّدة، وخاصة في ظل تصاعد أحمد الشرع "الجولاني" الى حكم الدولة السورية وتعدد الفاعلين على الأرض. فقد استطاع كيان الإحتلال تحويل الجنوب السوري إلى ساحة نفوذ مباشرة، وتحويل بقية الجغرافيا السورية إلى مسرح عمليات مفتوح يخدم أجندته الأمنية والاستراتيجية. ويكشف تحليل السلوك الإسرائيلي في سوريا عن مزيج من الأدوات العسكرية والاستخباراتية والسياسية التي لا تُمارس عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية، بل عبر ترسيخ "واقع عملياتي" يجعل "إسرائيل" صاحبة القرار الأول والأخير فيها.

وفي إطار هذه المعادلة، يظهر تجاهل إسرائيل للجولاني كجزء من سياسة متعمدة تهدف إلى منع أي طرف محلي من اكتساب شرعية سياسية أو عسكرية يمكن أن تزعج الحسابات الإسرائيلية مستقبلاً، مع الاستمرار في استخدام حضوره كأداة مبررة لتعزيز السيطرة العسكرية الإسرائيلية.

تعزيز الوجود العسكري الإسرائيلي في جنوب سوريا

نجح كيان الإحتلال في تحويل الجنوب السوري من منطقة تماس إلى ما يشبه منطقة نفوذ عسكرية غير معلنة، وذلك عبر استراتيجية تقوم على تكامل الأدوات الجوية والاستخباراتية والتكنولوجية، ما خلق بيئة مثالية لإسرائيل لبناء نظام مراقبة متكامل يتيح لها تحديد أي تهديد في مرحلة مبكرة. وتستند هذه السيطرة إلى مجموعة عناصر تعمل بشكل متوازٍ: منظومات استطلاع متطورة تعمل على مدار الساعة، وشبكة من الطائرات المسيّرة التي لا يفارق بعضها الأجواء، إضافة إلى قدرات استخباراتية بشرية تعتمد على مراقبة التحركات، متجاوزاً ذلك إلى صياغة "معادلة ردع" قائمة على الضربات الجوية الدقيقة التي تستهدف كل من يحاول تغيير قواعد اللعبة في الجنوب السوري. وبهذا تمكنت من فرض قواعد اشتباك تمنع تموضع أي قوة مسلحة قريبة من الجولان يمكن أن تشكل "خطراً" محتملاً، وقد توسعت الضربات حتى أنها باتت تُنفذ بشكل روتيني، الأمر الذي جعل الوجود العسكري الإسرائيلي جزءاً من المشهد السوري العادي، لتتحول هذه السيطرة الجوية إلى عنصر ثابت في البيئة الجنوبية، بحيث أصبحت "تل أبيب" قادرة على تحديد نوعية السلاح الموجود في المنطقة، وحتى على رسم خطوط انتشار الفصائل من خلال التحكم بالمسار الميداني عبر الضربات، مما أتاح للكيان تطوير استراتيجيته القائمة على "الردع عبر الإشراف الدائم"، لذا، ويمكن القول إن الجنوب السوري أصبح عملياً تحت منظومة تحكم إسرائيلية أوسع من مجرد مراقبة، إذ باتت تل أبيب قادرة على إدارة التوازنات المحلية من خلال منع أي جهة من تحقيق تفوق حاسم، الأمر الذي يسمح لها بفرض بيئة متغيرة دائماً وغير قابلة للاستقرار، وهو ما تراه ضرورياً لاستمرار سيطرتها.

الاستفادة من الأزمة السورية وصعود الجولاني

منذ اندلاع الأزمة السورية، تعامل الكيان مع سوريا بحذر، ودعم المظاهرات وموّلها وكان اليد الخفية والسرية لبعض المنظمات الإهابية التي قاتلت في سوريا، ورأى في الأزمة السورية يجب ألا تنتهي بانتصار أي طرف، بل ينبغي أن يبقى باب الصراع مفتوحاً بحيث يستفيد هي من حالة الاضطراب المستمر. ومع ظهور الجولاني وتمدد "جبهة النصرة" ثم "هيئة تحرير الشام"، رأت الكيان فرصة جديدة لتعميق الانقسام السوري. فوجود فصيل يحمل خلفية جهادية ويرفع شعارات معادية "لإسرائيل" لم يكن بالنسبة لـ"تل أبيب" تهديداً مباشراً، طالما أن هذا الفصيل مشغول ببناء سلطته في إدلب وبنزاعه مع الفصائل الأخرى. ومن هنا، تبنّت "إسرائيل" سياسة تقوم على ترك الصراع الداخلي بين المعارضة والنظام يتفاقم، مع تنفيذ ضربات نوعية تسهم في إضعاف الجميع دون أن تؤدي إلى سقوط سوريا بالكامل أو إلى انتصار ساحق لأي طرف. وبهذه الطريقة، استطاعت "إسرائيل" أن تحافظ على حالة "التوازن المُنهك" داخل سوريا، وهو توازن يجعل الجيش السوري عاجزاً عن استعادة سيطرته على الجنوب، ويجعل الفصائل عاجزة عن تحقيق مكاسب استراتيجية يمكن أن تثير قلق "إسرائيل" ذاتها. كما أن صعود الجولاني شكّل للكيان حجة إضافية لاستخدام القوة، إذ يمكنه دائماً القول إن وجود فصائل على حدودها يدفعها إلى اتخاذ إجراءات استثنائية لحماية ما يسمى "أمنها". هذا التوظيف السياسي كان جزءاً من حملة أوسع لتثبيت شرعية الوجود العسكري في الجولان المحتل، وتقديم "إسرائيل" للعالم باعتبارها طرفاً يحاول منع تمدد جماعات قد يهددها الحدود مع فلسطين المحتلة.

تجاهل الجولاني: سياسة لا اعتباط فيها

رغم محاولاته تقديم نفسه كفاعل سياسي معتدل أو قائد إداري قادر على حكم منطقة واسعة، لم تتعامل "إسرائيل" مع الجولاني بصفته لاعباً سياسياً يمكن التفاوض معه. هذا التجاهل ليس عفويًا، بل يمثل جزءاً من استراتيجية إسرائيلية أوسع تقوم على منع أي فصيل سوري من اكتساب شرعية قد تجعله رقماً صعباً في المستقبل. وتدرك "تل أبيب" أن الاعتراف الضمني بالجولاني قد يفتح الباب أمام تحوّله من قائد فصيل عسكري إلى جزء من معادلة الحكم في سوريا، وهذا ما لا ترغب به، لأنها تفضل بقاء المعارضة مشرذمة وغير قادرة على تشكيل جسم سياسي واحد. كما أن "إسرائيل" حذرة من أن يؤدي الاعتراف بأي من زعماء الفصائل إلى خلق سابقة قد تضطر للتعامل معها لاحقاً، وهي لا ترغب في التعامل مع أطراف يمكن أن تتخذ مواقف مستقلة خارج سيطرتها. إلى جانب ذلك، يستند التجاهل الإسرائيلي إلى حسابات تتعلق بالصورة العامة، فالتواصل مع قائد تنظيم مصنّف على أنه إرهابي دولياً يشوه صورة "إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، ويضعف قدرتها على تبرير عملياتها داخل سوريا. ولذلك، تعتمد "إسرائيل" مقاربة تقوم على تجاهل الجولاني سياسياً، ومراقبته أمنياً، ومعاملته باعتباره جزءاً من الفوضى المسلحة وليس طرفاً يمكن أن يدخل في معادلة تفاوضية.

 

نتنياهو وإستراتيجية الإضعاف المنهجي

منذ توليه السلطة، جعل نتنياهو الملف السوري جزءاً أساسياً من مشروعه السياسي والأمني. فقد اعتبر أن سقوط سوريا كقوة إقليمية يخدم المشروع الإسرائيلي على المدى الطويل، وأن الحفاظ على هذا الضعف يتطلب الاستمرار في ضرب البنى التحتية ومنع أي عملية إعادة إعمار عسكرية أو اقتصادية. وقد عمل نتنياهو على ترسيخ مفهوم "المعركة بين الحروب" الذي تقوم فيه "إسرائيل" بعمليات متواصلة تستهدف مراكز تصنيع الأسلحة، والمطارات، والموانئ، ومراكز القيادة العسكرية، وحتى بعض المنشآت الاقتصادية المتعلقة بالطاقة. هذه الضربات لا تأتي بمعزل عن سياق سياسي، بل هي جزء من خطة لإبقاء سوريا في حالة عجز دائم، بحيث تصبح دولة غير قادرة على استعادة قوتها السابقة أو فرض معادلة ردع جديدة. ويكشف تحليل خطابات نتنياهو عن أن الهدف الحقيقي من هذه العمليات لم يكن فقط منع نقل السلاح إلى حزب الله، بل منع إعادة بناء سوريا نفسها ككيان موحد قادر على التأثير في ميزان القوى الإقليمي. ولهذا، حرصت "إسرائيل" على استهداف أي منشأة يمكن أن تُسهم في إعادة تشكيل قدرات الدولة، سواء كانت عسكرية أو لوجستية أو اقتصادية.

التوظيف السياسي للجولاني في المعادلة الإسرائيلية

على الرغم من تجاهلها العلني له، فإن إ"سرائيل" استفادت من وجود الجولاني بشكل كبير. فظهوره المستمر، وانتشاره في مناطق واسعة، وتحوله إلى لاعب واقعي في بعض الجبهات، كلها عوامل استخدمتها "إسرائيل" لتعزيز خطابها الأمني الذي يبرر استمرار احتلال الجولان. ومن خلال تصوير الجنوب السوري على أنه محاط بـ"فصائل مسلحة متشددة"، سعت "إسرائيل" الى تقديم نفسها كقوة "مسؤولة" تحمي "حدودها" بما تسميها "تنظيمات "قد تشكل تهديداً في المستقبل. كما استخدمت "تل أبيب" بقاء الجولاني كإثبات على أن البديل عن سيطرتها الأمنية في الجولان ليس دولة مستقرة، بل فوضى مسلحة يمكن أن تمتد إليها. إضافة إلى ذلك، ساهم وجود الجولاني في تعميق الانقسامات داخل المعارضة، وهو ما يخدم "إسرائيل" مباشرة لأن معارضة ضعيفة ومشرذمة تعني استمرار حالة التفكك الداخلي في سوريا. وبالتالي، فإن الجولاني كان – من حيث لا يدري – جزءاً من معادلة عززت قدرة "إسرائيل" على التحكم بالجنوب وعلى تبرير تدخلاتها العسكرية.

 

الاتفاقات السرية: بين التواطؤ والضرورة

تشير معطيات الميدان السوري إلى وجود تفاهمات غير معلنة في الجنوب، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء. ورغم أن كيان الإحتلال لا يعترف رسمياً بهذه التفاهمات، فإن سلوكه العسكري يكشف عن خطوط تماس غير مستهدفة، وعن تفادي ضرب بعض المواقع رغم وجود تحركات فيها. ويبدو أن هذه التفاهمات تخدم مصالح الطرفين: فهي تمنع الاحتكاك المباشر، وتقلل من احتمالات الصدام المفتوح، وتتيح للقوى المحلية العمل ضمن مساحة معينة دون الخوف من تدخل إسرائيلي مباغت. ومع ذلك، تبقى هذه التفاهمات غير مستقرة، فهي تعتمد على توازن هش يقوم على المصالح المتغيرة. وفي اللحظة التي تشعر فيها "إسرائيل" بأن أي طرف يحاول تجاوز الخطوط المرسومة، فإنها تعيد ضبط المشهد عبر الضربات الجوية. ومن هنا، تبدو العلاقة بين "إسرائيل" وهذه القوى علاقة قائمة على تبادل الحاجة وليس على الثقة، لأن أي تغير في البيئة الإقليمية – سواء في الموقف الأمريكي أو في التحالفات داخل سوريا – قد يؤدي إلى انهيار هذه التفاهمات.

إدانات الجولاني: بين الضعف والاضطرار

أما فيما الرئيس الإنتقال، أحمد الشرع، فتتسم مواقفه (الجولاني) من الضربات الإسرائيلية بطابع خطابي أكثر منه عملي. فرغم أنه يصدر بين الحين والآخر بيانات استنكار، فإن هذه البيانات تبقى في إطار الشعارات العامة التي لا تحمل أي التزام عملي بالرد أو التصعيد. ويعود ذلك إلى عدة عوامل: أولها أن الجولاني يعلم أنه غير قادر على فتح جبهة مع "إسرائيل" لأنه يخالف المشروع الأميركي ويرى في "إسرائيل" حليف يساعده في ضرب محور المقاومة لا سيما حزب الله وحماس والحرس الثوري الإيراني، وثانيها أن مثل هذا الصدام سيضر بمشروعه الداخلي الذي يعتمد على توسيع نفوذه في إدلب ومحيطها. كما أن الجولاني لا يريد أن يدخل في مواجهة ستؤدي إلى استنزاف قواته وإضعاف سلطته في مناطق سيطرته. وبالتالي، فإن الإدانات لا تتجاوز كونها محاولة لامتصاص الضغط الشعبي أو تجنب اتهامه بالتقاعس، مع العلم أن سلوكه الفعلي يكشف عن إدراكه التام لحدود قوته. ومن هنا يمكن القول إن خطابه السياسي تجاه "إسرائيل" هو خطاب اضطراري وليس تعبيراً عن استراتيجية، لأنه يدرك أن أي تحرك فعلي قد يؤدي إلى صدام مباشر لن تكون له القدرة على تحمله، أو بالأدق: لا يريد خسارة "اسرائيل".

السياق الإقليمي والدولي

لا يمكن فهم السياسة الإسرائيلية في سوريا بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الذي يتحرك ضمنه. فالولايات المتحدة، رغم اختلاف إداراتها المتعاقبة، حافظت على مقاربة تسمح لـ"إسرائيل" بالعمل داخل سوريا طالما أن هذه العمليات تستهدف تقويض النفوذ الإيراني أو منع تعزيز قوة حزب الله. وقد منح هذا الدعم "تل أبيب" هامشاً واسعاً للتحرك دون خوف من رد دولي قوي. أما روسيا، التي تمتلك حضوراً عسكرياً واسعاً في سوريا، فقد تعاملت مع "إسرائيل" بسياسة "فصل الملفات"، حيث سمحت لـ"إسرائيل" باستهداف مواقع معينة طالما أنها لا تمسّ بمصالحها المباشرة أو بمواقع الجيش الروسي. وعلى الصعيد الإقليمي، فإن الدول العربية منقسمة تجاه الجولاني، فبعضها يعتبره جزءاً من واقع لا يمكن تجاهله، بينما ترفضه دول أخرى وترى أنه امتداد للفصائل المتشددة. هذا التباين يجعل من السهل على "إسرائيل" المناورة بين هذه المواقف، لأنه لا يوجد موقف موحد يمكن أن يشكل ضغطاً عليها.

 

المستقبل: استمرار أم تغيير؟

يرتبط مستقبل الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا بطبيعة التحولات المقبلة في المشهدين السياسي والميداني. فإذا تم التوصل إلى تسوية سياسية شاملة تعيد تشكيل السلطة المركزية في سوريا، فقد تواجه "إسرائيل" واقعاً جديداً يتطلب إعادة صياغة قواعد التعامل. وقد تجد نفسها أمام سلطة أكثر قدرة على فرض شروطها أو على إعادة بناء قدرات الدولة، وهو ما سيجعل من الصعب على "تل أبيب" الاستمرار في الضربات المفتوحة. أما إذا استمرت حالة الانقسام واللااستقرار، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية ستبقى كما هي: تكريس الوجود العسكري في الجنوب، منع تشكيل قوة سورية موحدة، تجاهل الجولاني سياسياً، واستمرار الضربات الجوية كأداة لإعادة ضبط ميزان القوى. وفي كل الأحوال، فإن قدرة "إسرائيل" على فرض معادلاتها في سوريا ستظل مرتبطة بمدى استمرار غياب الدولة السورية عن الجنوب، وبمدى بقاء الفاعلين المحليين في حالة تنافس وضعف يمنعهم من تشكيل أي تهديد استراتيجي في المستقبل. ومع ذلك، من الواضح أن "إسرائيل" ستستمر في سياستها القائمة على الحذر والبراغماتية، بينما سيبقى الجولاني يتحرك ضمن هامش محدود تحدده الظروف الإقليمية والتوازنات الدولية.

/انتهى/