وكالة تسنيم الدولية للانباء :
واجه الكيان الصهيوني في السنوات الأخيرة، ولا سيما متأثراً بالظروف الحربية واستمرار حالة انعدام الأمن في العامين الماضيين، ظاهرة "هروب الأدمغة" المتزايدة، مما أثار مخاوف عميقة بين المسؤولين والخبراء الإسرائيليين.
وفي هذا السياق، نشر "المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي" قبل أيام قليلة تقريراً شاملاً عن معدل الهجرة العكسية، والذي يظهر للمرة الأولى صورة أكثر دقة لـ "هروب الأدمغة" في الأراضي المحتلة.
ووفقاً للتقرير المقدم، في النظام القديم للمركز الإحصائي، إذا كان الشخص "مقيماً بشكل مستمر خارج فلسطين المحتلة لمدة عام كامل"، كان يُعتبر "مهاجراً". ونتيجة لهذا التعريف، فإن الشخص الذي غادر إسرائيل لكنه عاد لزيارات قصيرة - مثلاً مرة في السنة - لم يكن يُصنف كمهاجر على الإطلاق.
أما الآن، في النظام الإحصائي الجديد للكيان الصهيوني، فإن أي صهيوني يقضي 275 يوماً على الأقل في السنة خارج الأراضي المحتلة، حتى لو كانت لديه زيارة قصيرة خلال هذه الفترة، يُعتبر "مهاجراً". هذا التغيير لم يُصحح تشويهاً إحصائياً فحسب، بل كشف أيضاً عن مدى اتساع الفجوة بين الإدراك العام للمجتمع للهجرة المعاكسة والبيانات التي يقدمها المسؤولون.
وفقاً للنظام الإحصائي السابق، كان حوالي 16 ألف إسرائيلي فقط يهاجرون سنوياً من الأراضي المحتلة إلى الخارج؛ ولكن وفقاً للنظام الجديد، يغادر في المتوسط أكثر من 36 ألف شخص، أي ما يقارب ضعف العدد السابق، الأراضي المحتلة كل عام.
والأهم من ذلك، أنه في عام 2024، حدثت زيادة حادة في عدد الهجرة العكسية. ومن الجدير بالذكر أنه عندما نتحدث عن "مهاجري عام 2024"، فإننا نقصد في الواقع الأشخاص الذين غادروا إسرائيل في عام 2023، لأنه كما ذكر سابقاً، يُعتبر الصهيوني مهاجراً بعد عام واحد فقط من مغادرته.
وبالتالي، فإن الهجرة المسجلة في عام 2024 أظهرت موجة تأثرت بشكل رئيسي بحدثين: الأول هو خطة نتنياهو لدفع الإصلاحات القضائية المسماه "انقلاب القضاء"، والثاني هو التطورات التي أعقبت عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. في كلتا الحالتين، كان معظم الذين قرروا مغادرة الأراضي المحتلة من المتعلمين والعاملين في قطاعات مهمة مثل المجال الطبي وتقنيات المتطورة، والذين قرروا متابعة حياتهم في بيئة آمنة.
هروب الأدمغة: من يغادر إسرائيل؟
تكشف البيانات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي أنه إذا كانت نسبة حاملي الشهادات الجامعية الذين غادروا إسرائيل في عام 2010 حوالي 46٪، فقد ارتفع هذا الرقم إلى 60.4٪ في عام 2023.
كما يظهر فحص أنواع الشهادات التعليمية لهؤلاء المهاجرين اتجاهاً واضحاً؛ فقد ارتفعت حصة حاملي شهادة البكالوريوس من 27٪ إلى 33٪، ونسبة حاملي شهادة الماجستير من 15.7٪ إلى 23.5٪، وحصة حاملي شهادة الدكتوراه من 3٪ إلى 3.7٪. والأهم أن هذه عملية مستمرة يصبح فيها من يقررون الهجرة العكسية مجموعة أكثر تعليماً بكثير من ذي قبل.
وراء هذه الفجوة الإحصائية تكمن أهمية اقتصادية كبيرة. فالتعليم العالي هو أحد أقوى مؤشرات مستوى الأجور وتوقعات إيرادات الحكومة الضريبية والنمو الاقتصادي. في فلسطين المحتلة، يكسب حاملو شهادة البكالوريوس في المتوسط أكثر من أولئك الذين أكملوا المرحلة الثانوية فقط، بينما يكسب حاملو شهادات الماجستير والدكتوراه أكثر منهم. وبعبارة أخرى، عندما يغادر خريجو الجامعات الأراضي المحتلة، يفقد هذا الكيان ليس فقط مواطنيه، بل أيضاً جزءاً كبيراً من دافعي الضرائب، أولئك المهندسين والأطباء والعلماء والعاملين في مجال التكنولوجيا المتقدمة، والذين كلف تعليمهم هذا الكيان مبالغ طائلة.
لذلك، فإن هروب الأدمغة يعني انتهاء دفع ضريبة الدخل في الأراضي المحتلة وبدء دفعها في مكان آخر [1]. وهذه المسألة يمكن أن يكون لها عواقب اقتصادية أكثر خطورة في المستقبل، خاصة في ظل معاناة هذا الكيان من عجز في الميزانية، والحاجة الماسة إلى زيادة الإنفاق العسكري، ومشاكل في تقديم الخدمات العامة.
بُعد آخر للمسألة هو أنه مع زيادة عدد هروب الأدمغة، ينخفض تبعاً لذلك عدد الصهاينة الذين يقررون الهجرة إلى الأراضي المحتلة، لأن رحيل المتخصصين يحمل رسالة واضحة: "هنا ليس آمناً، الحياة هنا في خطر، لا مستقبل هنا".
نقطة أخرى هي أن "المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي" أظهر في تقرير آخر أنه بالإضافة إلى الاتجاه التصاعدي لهروب الأدمغة، فإن معدل الهجرة المعاكسة بشكل عام آخذ في الازدياد بين إجمالي سكان الأراضي المحتلة. ووفقاً لهذا التقرير، في عام 2024، كان عدد الإسرائيليين الذين هاجروا من الأراضي المحتلة أكبر من عدد المهاجرين الذين دخلواها. وبناءً على ذلك، هاجر حوالي 31 ألف شخص إلى الأراضي المحتلة في العام الماضي، لكن بدلاً من ذلك غادرها أكثر من 82 ألف شخص، أي أن عدد الذين غادروا إسرائيل كان أكثر من ضعف عدد المهاجرين الصهاينة الوافدين إلى فلسطين المحتلة.
لفهم أفضل للوضع اليوم، من الضروري إلقاء نظرة على إحصائيات عام 2023، وهو العام الذي بلغ فيه عدد المهاجرين الوافدين 46 ألف شخص، أي أكثر بنسبة 50٪ من عام 2024، وفي المقابل غادر 55 ألف شخص فقط الأراضي المحتلة في ذلك العام. توضح هذه المقارنة أن استمرار الحرب وعدم الأمان والظروف الاقتصادية والسياسية غير المستقرة في عام 2024 أدت إلى زيادة كبيرة في عدد الهجرة المعاكسة، وهو ما يسميه الخبراء الإسرائيليون "الانحدار الاجتماعي".
كما أكد التقرير الرسمي للمركز الإحصائي الإسرائيلي أن "الغالبية العظمى من يهود العالم لا يريدون الهجرة إلى إسرائيل. فهم مواطنون مخلصون في بلدانهم كما كان آباؤهم وأجدادهم." وهذا يؤكد الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمني المضطرب في الأراضي المحتلة. وفي هذا الصدد، كتبت صحيفة معاريف تصف هذا الوضع: "يهود الشتات الذين يفكرون في الهجرة ليسوا أغبياء، إسرائيل التي تعاني الآن من الضيق وتحت النيران ليست بيتاً مثالياً، حتى بالنسبة لمن يشعر بالانتماء الصهيوني ومستعد للهجرة إلى إسرائيل، لذلك ليس لديهم قرار بالهجرة." [2]
وفي ضوء الاتجاه الحالي، يمكن الاستنتاج أن المجتمع الصهيوني اليوم، الذي يواجه من ناحية خروج متخصصيه المتزايد، يفقد أيضاً سكانه العامين؛ أي أنه ليس فقط الأفراد المتخصصون والقوى الماهرة هم من يقررون مغادرة الأراضي المحتلة، بل إن الشعور بعدم الأمان على مختلف المستويات بين الفئات الأخرى بشكل عام يدفعهم إلى التوجه إلى دول أخرى.
كان لهذا الموضوع تأثير مباشر على الإيرادات الضريبية وانخفاض القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي. في تقارير مختلفة لوزارة الحرب الإسرائيلية، أصبحت مشكلة نقص القوى البشرية أزمة، ولمعالجة جزء من هذا النقص، زادت الضغوط على المجتمع الحريدي للانضمام إلى الجيش. ونتيجة لذلك، أدت هذه القضية في الأشهر الأخيرة إلى صراع في الحكومة، وخروج بعض أعضاء الائتلاف من تشكيلتها، وإقامة مظاهرات احتجاجية للحريديم، وزيادة الخلافات السياسية بين المعارضة وحكومة نتنياهو.
/انتهى/