سوريا: ساحة النفوذ الخفي لأمريكا وإسرائيل وتركيا والإمارات
- الأخبار الدولی
- 2025/12/13 - 17:26
لقد أصبحت سوريا في مرحلتها الراهنة واحدة من أكثر ساحات التنافس الجيوسياسي تعقيداً في الشرق الأوسط. لم تعد البلاد مجرد مسرح لحرب أهلية أو أزمة داخلية، بل تحولت إلى ساحة لتنافسات خفية ومتعددة الطبقات بين قوى إقليمية ودولية؛ تهدف هذه المنافسات إلى ترسيخ نفوذ أمني واقتصادي وسياسي دون الدخول في صراع عسكري مباشر بين الفاعلين الرئيسيين. تُظهر التطورات الجارية أن سوريا تقع في قلب مشروع أكبر لإعادة تشكيل النظام الجديد في الشرق الأوسط.
سوريا كساحة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي
يجب تحليل تطورات سوريا اليوم في إطار التحولات الجوهرية في ميزان القوى الإقليمي. التنافسات الجارية في هذا البلد ليست علنية وعسكرية، بل هي في الغالب خفية وتدريجية وتستند إلى أدوات هجينة أمنية واقتصادية وسياسية. تتمتع سوريا بموقع جيوسياسي رئيسي في معادلات النظام الإقليمي الجديد بسبب موقعها الواصل بين شرق المتوسط وعمق الشرق الأوسط، وجوارها للبنان وفلسطين المحتلة والعراق وتركيا، وكذلك دورها في محور المقاومة.
في هذا الإطار، يُعتبر السيطرة على سوريا أو على الأقل كبح توجهاتها الاستراتيجية بمثابة السيطرة على أحد الممرات الرئيسية للنظام المستقبلي في الشرق الأوسط. ومن هنا، تحول التنافس على سوريا إلى صراع يتجاوز حدود البلاد وارتبط بشكل مباشر بتطورات غزة ولبنان واتفاقيات إبراهيم والمشاريع الإقليمية الكبرى للطاقة والنقل.
الاستراتيجية الكبرى لأمريكا وإسرائيل: إعادة تشكيل الشرق الأوسط
تقوم استراتيجية الولايات المتحدة وإسرائيل على رؤية مشتركة لإعادة تعريف النظام الجيوسياسي والاقتصادي والأمني في الشرق الأوسط. تستند هذه الاستراتيجية إلى فرض نظام يتماشى تماماً مع المصالح الاستراتيجية لواشنطن وتل أبيب. يشكل ضمان تدفق الطاقة المستمر من الخليج الفارسي، والتحكم بالموارد الطبيعية والممرات الاستراتيجية، ومنع ظهور قوى منافسة إقليمية، والحفاظ على التفوق المطلق لإسرائيل، الدعائم الرئيسية لهذا المشروع.
بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، دخلت هذه الاستراتيجية مرحلة متسارعة. تحولت حرب غزة تدريجياً من صراع محدود إلى جزء من مشروع أكبر لإعادة تشكيل جغرافيا وسياسة وأمن المنطقة. يشكل مبدأ "السلام عبر القوة" أساس هذا النهج، مؤكداً على فرض أقصى درجات الضغط، والاستخدام الواسع للأداة العسكرية، وفرض شروط أمنية جديدة.
تتضمن أهداف هذه الاستراتيجية إضعاف أو تدمير محور المقاومة، وإنهاء التهديدات الوجودية ضد إسرائيل على الجبهتين الشمالية والجنوبية، وتوفير حرية العمل الكاملة لإسرائيل في التعامل مع القضية الفلسطينية، وتوسيع التطبيع على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وترسيخ إسرائيل كقاعدة متقدمة أمنية وطاقوية في المنطقة.
استراتيجية أمريكا في لبنان وسوريا: تغيير موازين القوى وتقسيم النفوذ
في لبنان، تركز السياسة الأمريكية على إغلاق ملف حزب الله بشكل كامل. يتم متابعة هذا الهدف على الأصعدة العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، ويتضمن فرض اتفاقيات أمنية مع إسرائيل، والتوجه نحو التطبيع الاقتصادي والسياسي، وإنشاء مناطق اقتصادية في القرى الحدودية، وإعادة رسم الحدود البرية والبحرية. الهدف النهائي هو إخراج لبنان من أي دور تهديدي ضد إسرائيل وتحويله إلى جزء من النظام الأمني الإقليمي الجديد.
في سوريا، يقوم سيناريو "ما بعد الأسد" على إدارة التغييرات بشكل مُتحكَّم به. على الرغم من منح الولايات المتحدة الضوء الأخضر لتركيا كحليف ميداني، إلا أن هذا التصريح مشروط بشدة. يُسمح بتأمين مصالح أنقرة فقط طالما لا تضر بالمشروع الأمريكي-الصهيوني. على عكس الضجيج الخطابي التركي، يتم تعريف دور أنقرة في مشروع إسقاط نظام سوريا عملياً ضمن إطار مصالح واشنطن وتل أبيب، ويعتبر امتداداً مباشراً لنتائج حروب غزة ولبنان.
تتضمن أهداف هذه الخطة فصل سوريا عن محور المقاومة، وإضعاف حزب الله في لبنان، وتدمير القدرات الاستراتيجية للجيش السوري عبر الغارات الجوية الإسرائيلية، وكبح نفوذ إيران. في هذا الإطار، تلعب أمريكا دور المراقب والحكم، وتدير تقسيم النفوذ بين تركيا وإسرائيل والقوى الكردية والحضور المباشر لها.
جنوب سوريا وأهميته الاستراتيجية لإسرائيل
يتمتع جنوب سوريا بأهمية استراتيجية كبيرة لإسرائيل بسبب موقعه الجغرافي وموارده المائية والممرات الحيوية مثل نصيب–جابر والقنيطرة. يعني السيطرة على هذه المناطق خلق عمق دفاعي، وهيمنة استخباراتية ومراقبة على سوريا ولبنان، ومنع انتشار قوات العدو، وتنفيذ هندسة ديموغرافية والتحكم بطرق التجارة. يُعرِّف المشروع المسمى "ممر داوود" أيضاً ضمن إطار النفوذ الميداني هذا، وهو جزء من جهود إسرائيل لترسيخ تفوق طويل الأمد في جنوب سوريا.
سياسات تركيا: الأمن والاقتصاد وكبح المنافسين
لا تدعم تركيا في سوريا الهيكل الفيدرالي وتؤكد على تشكيل جيش سوري موحد؛ وهو نهج يتقاطع مع سياسات الولايات المتحدة على المدى القصير. عزز دعم أنقرة لحكومة جولاني مكانة تركيا كقوة مهيمنة ميدانياً.
يقوم المشروع التركي على ثلاث ركائز رئيسية:
- أولاً: خلق عمق أمني عبر مناطق آمنة حتى عمق 30 كيلومتراً ونزع سلاح المجموعات الكردية.
- ثانياً: التحكم بالاقتصاد والطاقة عبر السيطرة على مصادر النفط والغاز والموانئ والممرات التجارية.
- ثالثاً: عرقلة استراتيجية لمنع توسع نفوذ إسرائيل والأكراد في شمال شرق سوريا.
الإمارات: موازنة ناعمة ونفوذ مالي
وتلعب الإمارات دور الموازنة الناعمة في تطورات سوريا. يتوافق هذا الدور مع محور أمريكا–إسرائيل، لكنه يحافظ على مسافة محسوبة من تركيا. تقوم استراتيجية الإمارات على كبح نفوذ إيران، وتقييد إعادة إعمار الهلال الشيعي، وإضعاف نفوذ تركيا، وإحياء العمق العربي بمشاركة السعودية، وتمويل هياكل محلية مستهدفة. تعتبر الاستثمارات في الطاقة والموانئ والسياحة، خاصة في طرطوس واللاذقية، الأداة الرئيسية لهذا النفوذ.
روسيا: ثقل موازنة في مواجهة المشروع الغربي
حافظت روسيا على قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم رغم تغير النظام. يتجاوز هدف موسكو الحفاظ على الأسد إلى ترسيخ مكانتها كقوة عظمى في الشرق الأوسط. يحاول الكرملين لعب دور المراقب والوسيط بين إيران وتركيا وإسرائيل وحكومة جولاني، وفي الوقت نفسه إلزام الحكومة السورية بدفع التكاليف الاقتصادية والسياسية لإعادة الإعمار. يشكل الوجود الروسي عائقاً رئيسياً أمام تحقيق كامل لسيناريو أمريكا ويعمل كثقل موازنة في مواجهة النفوذ الغربي.
خاتمة
تحولت سوريا اليوم إلى مسرح لتنفيذ مشاريع النفوذ الاقتصادية والسياسية والأمنية لأمريكا وحلفائها. يستمر التنافس بين تركيا وإسرائيل تحت المظلة الرقابية لواشنطن، وتحاول حكومة جولاني كسب الاستقرار والشرعية الأمريكية–الإسرائيلية وسط هذه الضغوط. في الوقت نفسه، حال وجود روسيا وفاعلين آخرين دون أحادية القطب الكاملة في هذا الفضاء، مما جعل سوريا واحدة من أكثر ساحات التنافس الجيوسياسي تعقيداً في الشرق الأوسط.
/انتهى/